
تمثل العمليات التي دارت البارحة اخر محاولة من قوات الدعم السريع لتسجيل نقاط في معركتها التي فقدت الهدف السياسي الدافع لها واصبحت عملية عسكرية بلا غاية. انها بحق ستكون نقطة اللاعودة للدعم السريع حيث اصبح وضعه في خارطة الخرطوم مجرد مجموعات متناثر بلا قيادة موحدة والقرار العسكري فيها عند القادة الميدانيين القريبين من بعضهم ويمكنهم التواصل دون القدرة على الحشد او الانفتاح. ودون معرفة الهدف الكلي للمعركة يصبح تحديد الاهداف العسكرية مصادفة دون ترابط يطور من الموقف العملياتي الكلي. وهي ظروف تجعل الهروب من المعركة هو الخيار الاول لتجمعاتها المنعزلة او حين حصول ضربات الطيران او حصول التمشيط المنظم الذي بدأه الجيش بحذر منذ البارحة مراعيا سلامة المدنيين.
قراءة اليوم ستكون في الاخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها قيادة الدعم السريع وتسببت في خسارته لحرب مضمونة تم التحضير لكل تفاصيلها منذ اربعة سنوات بدقة متناهية في حساب الافراد عند التجنيد وحساب التسليح مع التدريب وحساب الانفتاح في المراكز الحساسة وحساب بناء معسكرات تضمن خنق تحركات العدو والسيطرة من كل جانب. وبحسب تحليلي فان هذه الاخطاء الاستراتيجية تمثلت في التالي:
١. التفاؤل الكبير بالوضع الميداني قبل اطلاق الرصاصة الاولى وعدم حساب المتغيرات غير المنظورة. هنا يمكن حساب استبسال خمسة وثلاثين من شهداء الحرس الجمهوري وزملائهم الذين افشلوا خطة اغتيال البرهان او القاء القبض عليه ومن ثم مهدوا الطريق لافشال موجة الهجوم الاولى على القيادة العامة.
٢.التحرك المتزامن والانفتاح الواسع جدا حيث اندلعت الحرب في ١٨ ولاية سودانية في وقت واحد مما رفع درجة الاستعداد لكل وحدات القوات المسلحة فورا في نفس الوقت في كل السودان وكان يمكن حدوث استرخاء في الولايات واعتبار الامر مجرد سوء فهم وحادث عرضي يمكن احتواؤه في الخرطوم.
التحرك المتزامن ايضا اضعف قدرة قيادة الدعم السريع على ادارة المعركة الكلية وتركت الامر لقيادة وحداتها لادارة المعارك بشكل منفصل. وصل الامر الى درجة ان وحدات من الدعم السريع في الفاشر ونيالا خرجت من المعركة مبكرا ووقعت اتفاقات هدنة مع الجيش برعاية مجتمعية محلية وهي على الحياد الى اليوم رغم استمرار معركة الخرطوم.
٣. عدم التنوير الكافي من قيادة الدعم السريع لضباطها. من بين ٤٨٠ ضابط من القوات المسلحة ملحقين بالدعم السريع رجع الجميع الى وحداتهم فيما عدا ثلاثة فقط كما سلمت وحدات كاملة من الدعم السريع في اكثر من ستة ولايات دون ان تدخل في المعركة. هذا الامر سرع في حسم الحرب في الولايات ووجد الدعم السريع نفسه يقاتل في الخرطوم وحدها.
٤. الفشل الكبير في استلام المطارات من وادي سيدنا الى مطار الابيض الى القاعدة الجوية في جبل اولياء ومع اول طلعة طيران للمشاركة في المعركة انكشف الدعم السريع تماما وتغيرت المعركة لصالح القوات المسلحة.
ساهم في هذا ايضا عدم قدرة الدعم السريع بالتمسك بمطار مروي ويبدو ان قيادته حسبت حسابات خاطئة حول مطار مروي وضخمت من اهميته الاستراتيجية. وتسببت مروي في فقدان الدعم للتعاطف الاقليمي واثارت حوله الشكوك خصوصا في حادثة اسر الجنود والطيارين المصريين والمساومة بهم. اضطرت في النهاية الى تسليمهم غصبا عنها ودون شروط.
هذه المعركة ايضا اسهمت في تفكيك قوات الدعم السريع وزيادة انتشاره مع صعوبة القيادة والسيطرة وكان نجاح القوات المسلحة فيها نهاية مرحلة امتصاص الصدمة والانتقال الى ادارة المعركة حسب خطتها.
٥. نجاح القوات المسلحة في استباق عمق الدعم السريع وضرب كل متحركات الامداد القادمة من الغرب الى الخرطوم وتدمير اكثر من الفي عربة مسلحة او ناقلات تشوين في الصحراء. مع عدم قدرة الدعم السريع على فتح خطوط امداد اخرى او خساب تكلفة الحرب الحقيقية التي يحتاجها والبناء على ان الحرب ستكون هجوما خاطفا لن يستغرق ساعات.
٦. في معركة الخرطوم اتضح ان التمسك بمعسكرات الدعم السريع رغم انتشارها في عمق استراتيجي يضمن لها السيطرة الا انها خطة فاشلة نسبة لعدم كفاءة مضادات الطيران العادية في صد اي هجوم طيران من اي نوع رغم ادعاءات ثبت كذبها عن اسقاط طائرات. اصبحت المعسكرات الثابتة ارض قتل معدة وجاهزة اضطر الدعم السريع للهروب منها بما تبقى من قواته.
٧. الخطا الاستراتيجي القاتل كان في التوقع الخاطيء بان الجيش سيطارد الدعم السريع في الاحياء السكنية وفي المستشفيات ففي الوقت الذي كان الجيش بهدوء ودون استعجال يوسع من دوائر التامين حول القيادة العامة ومواقعه الاستراتيجية العسكرية الاخرى كالمدرعات الشجرة وقاعدة وادي سيدنا (ملحمة جبل سركاب) كان الدعم السريع يحتل المستشفيات ويطرد المرضى ويحولها لقواعد عسكرية ويحتل البنايات العالية ويطرد منها السكان وينشر القناصة على سطوحها. كما كان ينتشر بشكل واسع لا علاقة له بمجريات المعركة العسكرية وانما في محاولة اثبات وجود حتى في الطرق ونقاط التفتيش. بدا لوهلة ان الدعم السريع سيطر على ولاية الخرطوم بالكامل بمدنها الثلاث في الخرطوم وبحري وام درمان.
سرعان ما تكشف الخطا الاستراتيجي في هذا الانتشار الواسع في مساحة ٢٣ الف كلم مربع وبدا ان قوات الدعم السريع منتشرة في مناطق لا علاقة لها بالمعركة العسكرية الدائرة. وفي انتظارها لهجوم من القوات المسلحة عليها وجدت انها اعطت القوات المسلحة الفرصة الكافية لتنفيذ استراتيجيتها المتمثلة في قطع خطوط الامداد تماما و تحييد الجسور وفصل قوات الدعم السريع عن بعضها و توسيع داوئر التامين الرئيسية بصورة تجعل التمرد ينحصر في جيوب مع شل قدرته على حشد اكثر من خمسين عربة في المرة الواحدة والاستنزاف والانهاك المستمر.
فجاة بدات السيطرة الواسعة مجرد شرك كبير وقعت فيه قوات الدعم السريع فبدات في التحرك المستعجل لاحراز النقاط. ونسبة لعدم قدرتها على الحشد فقد توجهت نحو الوحدات الفنية للجيش مثل سلاح الاسلحة وفرع الرياضة العسكرية من اجل تحقيق نصر معنوي. وهنا وقعت في الشرك فمجرد خروجها تحولت لصيد سهل وتم استنزافها بنجاح كبير اكسب القوات المسلحة الثقة في نجاح خطتها.
لقد وصلت الحرب بعد معارك البارحة الى نقطة اللاعودة.
(في المقال القادم نتحدث عن السيناريوهات المتوقعة لنهاية الحرب.)
د. اسامة احمد عيدروس
١٧ مايو ٢٠٢٣م
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس