تقاريرسياسة شرعية

الشيخ محمد عبد الكريم: حديث حول “الدولة المدنية”.. ما يقرُّه الإسلام منها وما يرفضه

رصد: عبد العزيز ضيف الله
فرّق الشيخ د.محمد عبد الكريم، رئيس تيار الشريعة ودولة القانون، بين مدلول “المدنية” في تراث المسلمين الفقهي، وبين مدلوله في الفكر الغربي. مؤكداً أن المسلمين مطالبون بالاستقلالية في مصطلحاتهم، وأن يحسنوا التعامل المصطلحات الوافدة إليهم من مجتمعات أخرى، وعدم قبولها بدلالاتها الوافدة حتى لوكانت مصادمة لدينهم كما هو الحال اليوم، وأن المفروض عليهم أخذ ما يناسبهم وترك ما لا يناسبهم..وأضاف إن المسلمين عندما يكونون أقوياء ويعتزون بدينهم يستطيعون بسهولة يتعاملوا مع المصطلحات والأساليب الوافدة، التي تبدوا كأنها أساليب محايدة يمكن الاستفادة منها.
وأشار الشيخ محمد عبد الكريم، خلال حديثه أمس الجمعة في حلقة من برنامج الدين والحياة الذي تبثُّه قناة طيبة الفضائية حملت عنوان (المدنية)، قال إن أصل المصطلح موجود في الإسلام، وأن كلمة “مدنية” كانت شائعة عند فقهاء الإسلام، ولكنها بمعنى التحضر والحضارة، مشيراً إلى قول ابن تيمية “الإنسان مدني بطبعه”، موضحاً أن الإسلام مال إليها ورغب فيها، باعتبارها الحالة المثلى للإنسان، لافتاً إلى أن المدنية بهذا المفهوم هي “عكس البداوة”، وتعتبر أمراً إيجابياً مطلوباً في الإسلام.
وأشار رئيس تيار نصرة الشريعة ودولة القانون، إلى مدلول آخر لمصطلح المدنية شاع استخدامه في الفترة الأخيرة، وهو المدنية في مقابل “العسكرية”، بمعنى أن يكون الحاكم شخصاً مدنياً يتأتي باختيار الناس، وليس “عسكرياً” يفرض نفسه بقوة السلاح، وبالقوة البوليسية، وقال إن هذا المفهوم بهذه الصورة هو مفهوم صحيح في الإسلام، لأن الإسلام بنى اختيار الحاكم على قضية الشورى والاختيار من قبل أهل الحل والعقد.
وقال الشيخ عبد الكريم إن الإشكال في مصطلح “مدنية”، حين يأتي في المدنية بالمعنى الثالث، الذي نشأ به في الفكر الغربي، وهو “المدنية” في مقابل “الدينية”، موضحاً أن الدولة المدنية ارتبطت في المفهوم الغربي بـ “الثيوقراطية” أو”الحكم الإلهي” و”الحكم الديني”، فالدولة عندهم إما “مدنية” أو “دينية”، وذلك نتاج لإشكاليات فلسفية وخلفيات تاريخية، وكلا المصطلحين لا علاقة لهما بالإسلام، بل يعكسان إشكالية كان يعيشها المجتمع الغربي في فترة من فتراته.
وأشار عبد الكريم إلى أن (الدولة الدينية) في الفكر السياسي الغربي تعني “سلطة الكنيسة”، وأن الحاكم يعبر عن الله ولا حق للشعب في محاسبته ومراقبة أدائه، وفي المقابل تعني (الدولة المدنية) عندهم تأكيد سلطة الشعب وسلطة الإنسان، ورفض أي سلطة خارجة عن ذلك، بما في ذلك سلطة الدين، بحسب فهمهم للدين.
وقال إن وصف الدولة في الإسلام بأي من المصطلحين فيه إجحاف للإسلام، إذا لا وجود لكلا المفهومين في الإسلام، بل الإسلام يوجب على الشعب محاسبة الحاكم ومراجعته، بطرق معروفة، ولا قداسة للحاكم في الإسلام.. والمرجعية الدينية في الإسلام تعني “مرجعية القرآن والسنة”، أي الوحي، وهي مرجعية موضوعية، ميسرة لكل شخص، يستطيع أن يراجع الحاكم وفقاً لهذا المرجعية ويحاسبه، بعكس المرجعية الدينية في النظم “الثيوقراطية” هي مرجعية شخصية، تقوم على أن الحكم ملهم من عند الله مباشرة، فليس لأحد مراجعته فيما يفعل..
وقال الشيخ محمد عبد الكريم “إن وصف الدولة في الإسلام بأنها دولة دينية، تشبيهاً لها بالدولة الدينية التي نشأت في أوروبا، يقع الإنسان به في خطأ عظيم، فالدولة الدينية في المفهوم الغربي دولة “سيئة السمعة” لأنها ارتبطت بالاستبداد والتسلط وظلم الناس، بينما الدولة في الإسلام هي دولة يأمن فيها الخائف، وينتصف فيها المظلوم، ويُقام فيها العدل..
وأضاف: “ومن وصف الدولة في الإسلام بأنها دولة مدنية وقع في خطأ لا يقل عن الخطأ الأول، ذلك أن الدولة المدنية الحديثة تنكر حق الله في التشريع، وتجعله حقاً مختصاً بالناس، وهذا بخلاف الدولة الإسلامية، بل هذا يخرجها عن كونها إسلامية، ويُسمى هذا النوع من الحكم في الإسلام بـ “حكم الطاغوت”، وكل حكم سوى حكم الله تعالى هو حكم طاغوت”.
وأكد د.عبد الكريم أن مصطلح “الدولة المدنية” في المفهوم الغربي، هو مصطلح مشتمل على حق وباطل، فهو من قبيل “المجمل الذي يحتاج إلى تحرير” كما يقول علماؤنا، بمعنى أننا نحتاج إلى تحرير يحق الحق، ويبطل الباطل، وأحياناً إذا غلب على هذا المصطلح المفاهيم الباطلة وجب علينا نبذه، أو استخدم في غير موضعه أحياناً للتشغيب على قضايا معينة، كما قال الله عزّ وجل (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا)..
وأوضح عبد الكريم أنه حيال ذلك أصبح هناك اتجاهان لدى فقهاء المسلمين في التعامل مع هذا المصطلح، اتجاه يقول إن الغالب على مصطلح الدولة المدنية عند الغربيين، هو ما يتعلق بالحقوق ومراعاة الحريات، وجانب العدل، وغير ذلك من الجوانب العدلية التي يقرها الإسلام، وتسندها المقاصد الشرعية للدولة الإسلامية، وعلينا أن نحذف الباطل الموجود في هذا المصطلح ونقيده بالقيد التالي، نقول “الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بمرجعية إسلامية”، لنخرج من إشكالية إقرار الدولة المدنية في المفهوم الغربي.
واتجاه آخر، على رأسه فقهاء وعلماء مسلمون من جانب، وعلى النقيض لهم في نفس الاتجاه علمانيون، ويردون على أصحاب الاتجاه الأول بأنهم وقعوا في التناقض، عند وصفهم الدولة الإسلامية بأنها مدنية، والأصل في المدنية أنها “علمانية” لأن سلطة الدين غير موجودة في المدنية، والتشريع الإسلامي غير مقر به، والصحيح ألّا نصف الدولة الإسلامية مطلقاً بأنها دولة مدنية، لأنه يُشِكل على الناس.. والعلمانيون أيضاً لا يرضون بقضية دولة مدنية بمرجعية إسلامية.. وأصحاب الاتجاه الأول ردوا على أصحاب القول الثاني، بأنه يجب مخاطبة الناس بما يعقلون اليوم، لأن المدنية اليوم في الأوساط العربية، بعد الربيع العربي، أصبحت تأخذ منحى مقابل العسكرية، والناس يفهمون من المدنية هذا المفهوم، ولا يجب أن تقف ضد الشعار المرفوع عند الناس اليوم، كأنك في أذهانهم تقف مع الحكم العسكري.
وقال الشيخ إن موضوع أن “الدولة الإسلامية دولة مدنية بمرجعية إسلامية” يكون وجيهاً عندما يكون لنا اختيارتنا!!.. وعند التعامل مع المصطلح، اليوم، إذا كانت المدنية واقعياً، تأتي بالمفهوم المقابل للعسكرية، بمعنى أن يكون انتخابات حقيقية واختيار للحاكم، فهذا امر نقره وندعو إليه ونؤكد عليه، لأن ذلك فيه استدامة الاختيار الأمثل للحاكم بالمواصفات الصحيحة..لأن الحاكم المستبد سيخلف من ورائه حكاماً مستبدين.
أما أن تستخدم هذه الكلمة من قبل الفئات العلمانية وذوي الاتجاهات الإلحادية، لنبذ الدين، ورفض الشريعة الإسلامية، هذا الذي ينبغي أن نوعّي الناس بشأنه.
في إجابته على سؤال لماذا تصبح المدنية في هذا العصر هي الخيار بالنسبة للناس مع وجود دول مدنية فاشلة، قال الشيخ إنها تصبح هي الخيار إذا كانت بمعنى “الاختيار الحر للحاكم”، لأن الإسلام هو الذي قال هذا..ولأنها التي تؤدي إلى الاستقرار السياسي، عندما تتراضى المكونات الطريقة التي يتم بها اختيار الحاكم.
وأضاف إن هناك استغلال لهذا المصطلح في تمرير مفاهيم إلحادية، وإقرار قوانين تخالف الشريعة الإسلامية، ونشر الفساد والشذوذ الجنسي، باسم المدنية، ونحن نقول بالمدنية بمفهومنا نحن هي “مرجعيتها الإسلام، وهي التي تقيم الشرع، لأنها لا تكون مدنية “حضارية” إذا لم تقم الشرع.
وأوضح أن سبب فشل الحكم المدني في السودان، يرجع إلى عدم وجود رؤية موحدة لدى الأحزاب السياسية السودانية في قضية إدارة السودان، وأن هذه الأحزاب التي تنادي بالديمقراطية، هي أحزاب ذات خلفيات آيديولوجية أبعد ما تكون عن مفهوم التداول السلمي للسلطة..والنخبة السياسية في السودان غير مؤمنة بقضية التداول السلمي للسلطة، بل هي مؤمنة بقضية واحدة هي “كيف نصل إلى السلطة” ومن وصل إلى السلطة فأنه يجب أن يبقى في السلطة إلى أبد الآبدين.. وأكد أن مشكلتنا العظمى هي “عدم إقرار المرجعية الإسلامية”.
وتناول الشيخ محمد عبد الكريم قضية “استغلال المدنية” من قبل السياسيين الحزبيين الذي يرفعونها شعاراً ضد العسكر في العراك السياسي، وتساءل: “بالنظر إلى الواقع، ماذا فعل هؤلاء المدنيون الذين استلموا السلطة بالتشارك مع العسكر، هل أقروا عدالة حقيقية؟ّ!..أم مضوا في نفس طريق المظالم السابقة، بطرد الناس من وظائفهم، واستبدال تمكين بتمكين آخر، وما زال الفساد موجوداً حتى داخل مؤسسات مكافحة الفساد التي أنشؤوها، الأمر الذي جعل الناس يفضلون العسكرية على المدنية، مما أدى إلى تشويه تلك الشعارات.
وأكد عبد الكريم أن الدولة الإسلامية دولة مستقلة، لا شرقية ولا غربية، وهي بل الدولة في الإسلام سابقة للدولة الحديثة التي ينادون بها، وهي مؤسسة على الشرع والعدل، فسعد بذلك المسلم وغير المسلم..وفي وثيقة المدينة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر، الأساس الأول أن المرجعية العليا لهذه الدولة للوحي، والقائد الأعلى هو القائد المسلم الأول النبي صلى الله عليه وسلم ثم خلفاؤه الراشدون، والأساس الثاني أن هذه الدولة تقوم على الشورى، وإقامة العدل، ومن أعمالها الأساسية العمل على نشر الإسلام، ويجب استكمال كل تلك الجوانب كلها، حتى تكون الدولة رشيدة.
وحول موضوع “البيعة للسلطان” وهل الانتخابات يمكن أن تكون بديلاً لها، قال إن المقصود بالبيعة هو أن يبايع الناس عن رضى لحاكم اختير من بينهم أن يقودهم، وهذه البيعة تمت عن طريق نواب عن الشعب أيّاً كان مسماهم، زعماء قبائل وعشائر، أم منتخبون من كل بلدة، المهم أن هؤلاء الأعيان هم الذين يبايعون هذا الحاكم، وهذا الذي يتم حتى في الديمقراطيات الحديثة، لكن إذا وجدت طريقة لاستفتاء جميع المواطنين للترجيح في اختيار الحاكم، فلا مانع استئناساً بأثر استفتاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لأهل المدينة للترجيح بين عثمان وعلي.
وأكد الشيخ محمد عبد الكريم، أن الإسلام أنصف غير المسلمين في الدولة، وهذا ما شهد به المنصفون من المؤرخين الغربيين، ووثيقة المدينة بيّنت حقوق غير المسلمين من اليهود، بأن لهم دينهم، وجاءت آيات الكتاب العزيز فأكدت ذلك، بأن أهل الكتاب إذا أدّوا ما عليهم من الجزية، التي يقدمونها في مقابل حمايتهم وهي دليل قبولهم لحكم الإسلام، وعند ذلك لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وحول الديمقراطية قال الشيخ إنه يقال فيها ما يقال في الدولة المدنية؛ إذا كان المقصود بالديمقراطية أن الشعب هو الذي يقر القوانين ويحدد المرجعية العليا للدولة، فهي مرفوضة، لأن المرجعية والتشريع في الإسلام محسوم (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)، أما إذا كان المقصود بالديمقراطية التداول للسلطة وأن يكون اختيار الحاكم من قبل الأمة، فهذا مفهوم صحيح.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى