سياسةمقالات

عَنِ الدِّين! (3-3)

بقلم : معتز الأمين حسن

تشير إحصاءات السكان إلى أنه ثمّة تحوّل في الانتماء الديني، فعلى سبيل المثال، في فترة السبعينيات من القرن الماضي، أي خلال الحُكم الشيوعي في كل من الاتحاد السوفييتي والصين، كان الأفراد الذين لاينتمون لديانة معيّنة يشكلون خمس سكان العالم، أي كان هناك فرد من كل 5 أفراد لاينتمي لدين معيّن وذلك وفقا لكتاب “ديانات العالم في أرقام” (The world’s Religions in figuers) الصادر في عام 2013،غير أن هذه النسبة واصلت التناقص التدريجي، حيث وصلت إلى حوالي 16% في العام 2015.
ومن المتوقع أن تواصل انخفاضها لتصل إلى 12.5% في عام 2060،وذلك مقارنة بواقع الاتجاه نحو التديُّن، حيث بلغت نسبة أتباع الديانات 84% من إجمالي سكان العالم في عام 2015، ومن المتوقع أن تبلغ 87.5% في عام 2060.
ويشير الواقع الحالي لانتشار الدين في العالم إلى أن المسيحية الديانة الأكثر انتشارا في العالم، فحوالي 2.3مليار شخص في العالم في عام 2015 ينتمون للدين المسيحي، بما يمثل 31.2% من إجمالي سكّان العالم، يليهم أتباع الدين الإسلامي بحوالي 1.8 مليار نسمة، بما يمثل 24.1% من سكّان العالم، ثم يأتي الهندوس كثالث أكبر جماعة بحوالي1. 1 مليار نسمة، ويشكلون 15.1% من سكّان العالم، ويعيش معظمهم في الهند ونيبال. ويمثّل البوذيّون 6.9% من سكّان العالم(500 مليون فرد)ويعيشون في الصين وبوتان وميانمار وكمبوديا و لاوس ومُنغوليا وسيرلانكا وتايلاند والهند.
وهناك أيضا 14 مليون يهودي حول العالم، ويمثّلون الدّيانة الأقل انتشاراً في العالم، ويتركّز معظمهم في كل من إسرائيل الولايات المتّحدة الأمريكية. أما الأشخاص الذين لاينتمون لأيّ دين فإنهم يشكلون حوالي 16% من سكّان العالم في عام 2015م، أي مايقرب من 1.2مليار شخص حول العالم لاينتمون إلى أي دين، ويعيش معظمهم في الصين وكوريا الشمالية والتشيك.
وتؤكّد كثير من الإحصائيات أن أتباع الأديان سوف تتزايد أعدادهم في المستقبل، ومن الملحوظ ارتفاع أعداد المُنتَمين للإسلام تفوق أي دين آخر، حيث من المتوقّع أن يتخطّى الإسلام المسيحية، ويصبح الدّين السائد في العالم بحلول عام 2070.وهناك عاملين رئيسيين يؤثّران في تشكيل خريطة الأديان في المستقبل، الأول مرتبط بالتحوّلات الديمغرافية، والثاني مرتبط بالتحوّل من دين لآخر.
وتكشف التطوّرات المتلاحقة في أوروبا في الآونة الأخيرة عن إعادة التأكيد على الدين باعتباره أحد مكوّنات الهُويّة الوطنية للدول الأوروبيّة اليمينية، وكذلك الأحزاب التقليدية الرئيسية بضرورة التأكيد على الهُويّة المسيحية لأوروبا، لمواجهة تدفقات المهاجرين ” المسلمين”، وتصاعد العمليّات الإرهابية.
أما في منطقة الشرق الأوسط فإن الوضع لايختلف كثيرا عن أوروبا، وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط على مدار السنوات القليلة الماضية أزمات كبيرة خلفت وراءها دولا منهارة وشُعوبا مشتّتة، وصعود نُظم سياسية وهُبوط أخرى، وظهور دويلات إرهابية، وميل شباب مثقف للتطرف الديني، فقد دفعت هذه التطورات دول المنطقة إلى إعادة التركيز على إصلاح الخطاب الديني، واستعادة المؤسسة الدينية باعتبارها المصدر الرئيسي للمعرفة الدينية، وتحجيم الأصوات غير الرسمية. و دفعت بعض الأفراد إلى انتهاج أنماط مختلفة من التديّن، والتركيز على الجانب الروحي من الدين، وتجلّى ذلك في إعادة إنتاج مفردات التراث الصوفي، كالأدب والروايات الصوفية وارتفاع الإقبال عليها، وكذلك اختلاط الموسيقى والشعر الصوفي بالغناء العربي.
ولم يَمُت الدين كما نظر له الأوائل، ولم تستطع الماديّة البحتة تلبية الاحتياجات الروحانية كما رأى الفكر الشيوعي، ولم ينحصر الدين في إطار الدائرة الشخصية كما افترض الاتجاه العلماني، بل إن الجدال الديني عاد مرّة أخرى للمجال العام، وأعاد تشكيل نفسه في المجتمع، وكشف عن اتجاه جديد حاول الفيلسوف الألماني ” يورغن هابرماس” بلورته من خلال “مجتمعات مابعد العلمانية”(Post-socular societies)، حيث أصبح النموذج العلماني ” الأوروبي” إذا جاز التعبير، والذي توقّع المنظرون أنه سوف يسود العالم، هو الاستثناء وليس القاعدة.
وبناء على ذلك، أكّد “هابرماس” أنه لايمكن وقف تيار عودة الدين للمجال العام، مشيرا إلى أن هناك منزلة جديدة للدين، بحيث يتطور مجتمع العلمانية إلى مايشبه الظاهرة المركّبة التي تفترض وجود طرفين، عَلمانيّ و دينيّ. وبذلك تكون مابعد العلمانية مسارا تكامليا بين الطرفين، ويؤكد “هابرماس” أن من مصلحة الدولة الدستورية الحديثة مراعاة كل المصادر القيَمية، التي تدعم التضامن بين الناس وتنمي لديهم الوعي القيمي، ولذا فإن المؤمنين والعَلمانيين في الدولة الدستورية الحديثة ينبغي عليهم التعامل باحترام متبادَل، ولن يتم ذلك إلا عندما يتم احترام القناعات الدينية، والكف عن نعتها باللاعقلانية.
وبذلك وضع ” المجتمع مابعد العلماني” ضوابط جديدة لعودة الدين، تميل للتسامح والتعددية وتفاعُل الدين في إطار علماني، بحيث ينعكس الدين في مجموعة من القيم المدنية، والوظائف الروحانية بالأساس. وفي كل الأحوال، وسواء كان التوجّه نحو الدين بصورة روحانية في بعض المناطق أو عقائدية ومؤسسية في مناطق أخرى، فمن المسلّم به عودة لدور الدين.
عموما وبعد هذا التلخيص فإن هذه الداراسات أثبتت بالأدلّة الاستقرائية والإحصائيات الرقمية أن عودة الدين أمر واقع.. وهو ما يؤكده الدين ذاته لأنه وحيٌ من لدن حكيم خبير أنبأ بأن هذا الدين غالب منتصر ولن يبقى من سكّان الأرض بيت شجر ولا وبر إلا ويدخل الله فيه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ولو شاء الله لأدخل الناس كلهم أجمعين في دين الإسلام بكلمة (كُن) ولكن ليبلوَ اللهُ النّاس فيما آتاهم من الهُدى فيمكّنون له بحقّ.
وأمر آخر هو أن الشيوعية تكاد تكون في طيّ التاريخ الآن فليست هي المؤثّرة ولا الحاكمة.
وأخيرا إن إنسانية الإسلام ونظرته الموضوعية لكثير من مشكلات المجتمع الدولي يجعل منه دينا جاذبا.
ويلزم الإسلاميين الآن انتهاج نوع من التعامل يُوازن بين بقاء أنموذج الدين إن لم يكن في مثال الحُكم والدولة ففي أنموذج الجماعة وأفرادها من حيث حكمتهم وضربهم المثال الطيب من أنفسهم وهو المثال الذي أدخل الناس في الإسلام قديما أفواجا أفواجا من كل بقاع الأرض.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى