الجيش السوداني ومعركة حصد الرؤوس الكبيرة
تقرير: أحمد غباشي
حملت الأنباء، خلال الأيام القليلة الماضية، خبر مصرع حمودة البيشي، ابن عم القائد المليشي الهالك عبد الرحمن البيشي وخليفته في قيادة قطاع النيل الأزرق، وكانت قيادة المليشيا المتمردة قد اختارت حمودة البيشي خليفة للقائد عبد الرحمن البيشي، الذي تمكن الجيش من اصطياده في عملية نوعية تمت في يوليو الماضي.
ورغم أن حمودة البيشي قد لقي حتفه مع أربعة من مرافقيه على يد قوة من مقاتلي قبيلة الرزيقات بمليشيا الدعم السريع المتمردة، كما يقول الخبر، ولكن ملابسات التصفية، التي جاءت على خلفية اتهامات له بالتخابر مع القوات المسلحة السودانية عبر قريب له يعمل ضابطاً بها، تلفت النظر لاحتمال أن يكون الأمر كله عملاً استخبارياً بامتياز نفذه الجيش السوداني ضمن استراتيجية محددة لتحييد القادة الكبار بالمليشيا.. وأقول إن هذا مجرد احتمال، لكنه يفتح الباب للحديث عن “استراتيجية صيد الرؤوس الكبيرة” التي ينفذها الجيش السوداني ضد قيادات المليشيا المتمردة منذ بداية الحرب.
عدد كبير القادة الميدانيين، من بينهم قيادات لفصائل المرتزقة الأجانب، هلكوا في عمليات نوعية أو خلال الاشتباكات مع الجيش السوداني في مواقع متعددة، في غضون ١٧ شهراً منذ بدء الحرب.
*توثيقات بخط المليشيا.. “دنيا زايلي ونعيمكي زايل”:*
في بداية الحرب كانت الغرف الإعلامية للمليشيا تعمل بنشاط فائق، ولكنها، على الأغلب، بدون تنسيق ولا منهجية واضحة.. وفي هذا السياق قامت تلك الغرف بتوثيق كثير من الوقائع التي تضر كثيرًا بالمليشيا سواء كان من ناحية صورتها الذهنية؛ مثل توثيق الانتهاكات التي مثلت فيما بعد مادة جيدة للتقارير الدولية التي وثقت انتهاكات الدعم السريع.. أو من ناحية تثبيط الروح المعنوية لجنود المليشيا، بمثل أخبار مقتل كبار القادة الميدانيين!..
وكان حساب (عَجّال لاقن) على فيس بوك واحدة من تلك المنصات التابعة للمليشيا التي اشتهرت على نطاق واسع بالتوثيق لقتلى المليشيا من قيادات ومقاتلين من خلال نشر صورهم، ومنها انتشرت العبارة الشهيرة (دنيا زايلي ونعيمكي زايل)..
ولكن يبدو أن قيادة المليشيا انتبهت، بعد وقت طويل، للضرر الذي تجره تلك التوثيقات فأوقفت نشاط الصفحة.
*رؤوس المرتزقة تتساقط:*
خلال الأيام الأولى لاندلاع الحرب، نشرت منصات إعلامية تابعة للجيش فيديو يظهر فيه من قالت إنه قائد حركة “نضال مظلوم” التشادية، حسين الأمين جَوْجَوْ، وهو يقاتل في صفوف قوات الدعم السريع في الخرطوم.. ثم لم تمض أيام قليلة على ذلك حتى نشرت ذات المنصات صورة لجثة نفس الرجل الأسمر ذو الملامح العربية.
ويتحدر حسين الأمين جَوْجَوْ، من قبيلة السلامات العربية المتمددة بين تشاد والسودان، ويقود أحد فصائل المعارضة التشادية، وهو حركة (نضال مظلوم)، وقد دخل السودان بقواته لمساندة قوات الدعم السريع لدوافع قبلية، لتكون نهايته في الخرطوم صريعاً بالقرب من مصنع اليرموك.
ومن قيادات المرتزقة التشاديين الذين قتلوا في السودان العميد حمدان الدعاك، بحسب مصادر مطلعة أفادت أيضاً أن بعض قيادات المرتزقة التشاديين سقطوا في قبضة استخبارات الجيش السوداني مثل العميد علي حبيب حريكة.
وفي ذات السياق استطاع الجيش أن يقضي على معظم قوات النخبة الذين بعث بهم الرئيس النيجري المخلوع محمد بازوم، البالغ عددهم 6 آلاف جندي.
*فخاخ في الاحتياطي المركزي والشجرة والمهندسين:*
تؤكد المصادر المتطابقة أن المعارك التي التي خاضتها المليشيا للسيطرة على مقر الاحتياطي المركزي بمنطقة الشقيلاب جنوب الخرطوم، والتي شنتها على مقر سلاح المدرعات بمنطقة الشجرة بالخرطوم، وهجماتها على سلاح المهندسين بأم درمان، كلفتها كثير من الخسائر البشرية تقدر بالآلاف، خصوصاً في الشهور الأولى من الحرب، وكانت تلك الهجمات سانحة للجيش لصيد رؤوس عدد كبير من القيادات الميدانية.. ورغم أن مقر الاحتياطي المركزي سقط في قبضة المليشيا، بينما استعصت عليها الشجرة والمهندسين، ولكن عدد الرؤوس التي حصدت جعله نصرًا بطعم الهزيمة.
ومن أهم قادة المليشيا الذين حُصدت أرواحهم تحت أسوار الاحتياطي المركزي؛ العميد يحي محمد آدم قائد أول منطقة الخرطوم ونائبه عمر الحمري قائد ثاني جنوب الخرطوم، الذين قُتلا خلال تلك المعارك التي جرت في شهر يونيو ٢٠٢٣م.
وتذكر المنصات الإعلامية أسماء كثير من القادة وقعت تصفيتهم في فترات متفاوتة سابقة ولاحقة، منهم من هلاكه مشكوك به ومنهم متحقق، مثل النور الدومة من قوات النخبة، وموسى قارح قائد القوات الخاصة2، الذي قُتل في أبريل الماضي بالقرب من منطقة كرري مع مجموعة كبيرة من جنوده، في عملية مرتبة بدقة حيث نُزعت الإبر عن معظم مدافع مجموعته، بحسب رواية قوات الدعم السريع التي اعترفت بمقتله ونعتته بصفة(قائد كبير).
وفي شهر يوليو الماضي أعلن مرصد بولاية الجزيرة مقتل القائد الميداني لقوات الدعم السريع بمحلية أم القرى عثمان يحيى إثر غارة جوية نفذها سلاح الجو إلى جانب تدمير مخزن أسلحة يتبع لهذه القوات في مباني جهاز الأمن بالمحلية.
وبجانب هؤلاء القادة الذين حُصدت أرواحهم، هناك قادة آخرون سقطوا في قبضة استخبارات الجيش أمثال العميد صلاح حمدان نائب القائد الميداني حامد عمليات، وأدلي حمدان بعد اعتقاله بمعلومات مهمة كشفت الكثير من خبايا المليشيا المتمردة.
ومن الذين أوقعت بهم الاستخبارات العسكرية في قبضتها؛ أحمد عبد الرحمن الفهيم قائد غرب وجنوب أم درمان، وعيسى بشارة العميد باستخبارات المليشيا، والعميد أحمد عمر مخدة، قائد الهجوم على مروي.
*صيف ٢٠٢٤.. هو الأقسى على المليشيا:*
يمكن القول إن صيف العام ٢٠٢٤ كان شديد القيظ على المليشيا، وإن شهور مايو يونيو ويوليو كانت أقسى شهور الصيف عليها!!.. حيث بلغت رحلة الصيد ذروتها باغتيال ثلاثة من أهم القيادات العسكرية الميدانية للمليشيا، وكان لتصفيتهم أبلغ الأثر في مسار الحرب، وهم على التوالي:
*١/ المقدم عبد المنعم شيريا:*
قائد قطاع كردفان، الذي قُتل في معارك كبيرة دارت يوم الثلاثاء ٧ مايو الماضي، بين الجيش السوداني والمليشيا في محور جبل كردفان، حيث أصيب خلالها شيريا وتوفي متأثرًا بجراحه في مستشفى أم روابة في نفس اليوم.
وبعد مقتل شيريا تراجع، إلى حد كبير، مستوى الهجمات التي كانت تشنها المليشيا على مدينة الأبيض حاضرة الولاية.
*٢/ اللواء علي يعقوب جبريل:*
قائد قوات الدعم السريع في قطاع وسط دارفور، ويمُتُّ بصلة قرابة لمحمد حمدان دقلو قائد المليشيا المتمردة.
وفي يوم الجمعة ١٤ يونيو الماضي، أعلن الجيش السوداني أنه قتل جبريل خلال معارك بالقرب من مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور، التي كان القائد الهالك يحاول السيطرة عليها، وما زالت المعارك تدور حولها حتى اليوم بين القوات المسلحة السودانية والقوات المشتركة من جهة ومليشيا الدعم السريع من جهة.
وتمت تصفية جبريل على الرغم من أنه كان يحمل في سيارته جهازاً لتشويش الطائرات. ويبدو أنه أصيب بضربة مباشرة من قذيفة مدفعية..واعتبر مقتله ضربة موجعة لمليشيا الدعم السريع.
ويعتبر علي يعقوب جبريل من أهم القادة الميدانيين للمليشيا، ولعبت قواته دورا حاسمًا في عمليات الدعم السريع في عموم دافور وساهمت في إسقاط الفرقة 21 مشاة في مدينة زالنجي حاضرة ولاية وسط دارفور، حيث نصبته قيادة المليشيا واليا عليها، كما سيطرت قواته على مدينة مليط، ٥٦ كلم شمال الفاشر، ذات الموقع الاستراتيجي والمنفذ الوحيد الذي يغذي عاصمة شمال دارفور بالمواد الغذائية القادمة من ليبيا وشمال السودان.
ويتهم جبريل من قبل الحكومة السودانية ومنظمات أهلية بالتورط في عمليات حرق أسواق ومستشفيات، وهجمات على متاجر وبنوك، وتدمير مؤسسات الدولة، والبنية التحتية للاتصالات، بالإضافة لقطع الطرق على قوافل المساعدات الإنسانية.
وفي مايو الماضي فرض مكتب مراقبة الأصول التابع للخزانة الأميركية، على على يعقوب، واثنين آخرين من قادة الدعم السريع، عقوبات لاشتراكه في قيادة حملات حربية في دارفور ومناطق أخرى. وبموجب الأمر التنفيذي رقم 14098، قالت الخزانة إنه سيتم حظر ممتلكات ومصالح يعقوب في الولايات المتحدة.
*٣/ المقدم عبد الرحمن البيشي:*
قائد قطاع النيل الأزرق، وقائد العمليات في محور سنار، وهو الذي قاد الهجوم الذي انتهى بسيطرة المليشيا على مدينة سنجة حاضرة ولاية سنار.
وقُتل البيشي فجر السبت ٢٠ يوليو الماضي إثر غارة جوية نفذها الطيران الحربي للجيش السوداني خلال المعارك في محور سنار، طبقاً لرواية الدعم السريع.
ووفقا لمصدر في الجيش السوداني، صرح لموقع الجزيرة نت، فإن الجيش كان يتعقب البيشي وتمكن من قتله، بعد الرصد والمتابعة، بغارة جوية، وأن جثته وجدت لاحقا متفحمة.
و يتحدَّر البيشي من قبيلة رفاعة العربية التي تستوطن ولاية النيل الأزرق وأجزاء من ولاية سنار، ولم يعرف له تاريخ عسكري قبل انضمامه لقوات الدعم السريع منذ سنوات، وعند اندلاع الحرب في أبريل ٢٠٢٣ كان البيشي من القادة المعروفين بالدعم السريع، وكان يحمل رتبة رائد، قبل أن يترقى لرتبة نقيب، عقب سيطرته على مدينة سنجة.
وتنبع أهمية البيشي للمليشيا من كونه ينتمي إلى قبيلة لا تصنف من حواضن الدعم السريع مما يمثل لها شاهدا على قومية تمردها، وبجانب معرفته الدقيقة بجغرافية منطقة سنار والنيل الأزرق، كما أنه تمكن من تجنيد عدد كبير من أبناء بدو وسط السودان بصفوف المليشيا.
*هل حققت استراتيجية صيد الرؤوس أهدافها؟*
يرى الضابط المتقاعد بالجيش السوداني اللواء معتصم الحسن في حديثه لموقع “الجزيرة نت” أن استراتيجية الجيش في اصطياد الرؤوس الكبيرة آتت أكلها؛ فمِن بين 10 من القيادات البارزة والمؤثرة تم قتل 3 على أقل تقدير حيث تم قتل اللواء علي يعقوب قائد العمليات في دارفور، والقائد الميداني شيريا في كردفان، ثم أخيرا وليس آخرا البيشي في وسط السودان، إلى جانب مقتل قيادات كبيرة ومؤثرة لم يتم الإعلان عنها.
ويضيف اللواء الحسن؛ أن “هذه الاستراتيجية أدت لاختفاء قيادات بارزة بل هروبهم من الميدان كالفريق عبد الرحيم دقلو، واللواء عثمان عمليات، وغيرهم” أ.هـ.
ومن الفوائد التي حققها الجيش من استراتيجية حصد الرؤوس، نشر الخلافات في أوساط المليشيا، فهي ليست قوات نظامية تقوم على التراتبية العسكرية بل هي مليشيا قبلية يمثل الولاء للقائد ركيزتها الأساسية، ولذلك فإن غيابه يفرز إشكالات كبيرة، وما مقتل حمودة البيشي مؤخراً إلا مثالًا لذلك النمط من الإشكالات، فالمجموعات القبلية التي قبلت على مضض بقيادة البيشي الأول لم يكن يسعها الرضا بالعمل تحت قيادة ابن عمه العاطل عن كل مميزات سلفه! ويقال أن الخلافات نشبت عقب مقتل عبد الرحمن البيشي مباشرة، بين شقيقه وبين القائد عيسى سليمان، الذي وقف خطيباً على قبر البيشي، لكن قيادة المليشيا تجاوزت الإشكال مؤقتاً بتنصيب ابن عمه حمودة البيشي، لضمان الإمداد والتجنيد، لكن الخلافات تجددت مرة أخرى لتودي بحياة الأخير مع أربعة من مرافقيه.
وفي دارفور أفادت تقارير صحفية أن مقتل القائد على يعقوب جبريل، تسبب في فقدان تماسك تلك القوات، وأدى إلى نشوب خلافات وانشقاقات حادة بين قادة وجنود مليشيا، خاصة بعد انكشاف خذلان قيادة المليشيا لعلي يعقوب ورفضهم إرسال المدد الذي طالبهم به وردهم عليه بأن يعتمد على “الفزع” (الاستنفار القبلي).
وتتحدث التقارير عن خلافات في محور الجزيرة تطورت إلى اشتباكات بين القادة الميدانيين، مثل الاشتباك الذي وقع في منطقة المسيد بالجزيرة، بين قوات القائدين المليشيين عمار جرمة وعصام فضيل وأسفرت عن مقتل جرمة وإصابة العشرات من الطرفين.. والاشتباك بين قوات قائد القطاع أبو عاقلة كيكل وقوات القائدين أحمد يعقوب والسميح في محلية الكاملين.