تحقيقحوارات وتحقيقاتمجتمع

مهددات أم نُذر حرب أهلية؟!.. تصدعات في جدار السلم الاجتماعي بالسودان

باحثون وخبراء علم اجتماع وعلم نفس يدلون بآرائهم حول انفجار الصراعات القبلية في السودان

اهتم الإسلام بالسلام الاجتماعي، وجعله من مهمات الدين وأساسيات الشريعة لارتباطه الوثيق بالمنفعة العامة للأمة الإسلامية ومصالح العباد، ومن أول وأهم مبادئ السلام الاجتماعي نبذ الظلم وعدم الاعتداء على الآخرين، ومن مظاهر السلام الاجتماعي أن يعيش الإنسان متوافقاً مع نفسه ومع الآخرين.
ولكن الصدامات التي حدثت في السودان خلال الفترة الماضية كانت مؤشراً يعكس ما وصلت إليه الحالة السودانية من ضعف وتصدع في البنيان الاجتماعي.. ومثلت هذه الصراعات المتكررة مهدداً للسلم والتعايش في المجتمع السوداني المعروف بالتسامح والتصالح!!.
(الطابية) أجرت هذا التحقيق للبحث حول قضية التعايش السلمي والسلام الاجتماعي خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد وبحثت في مهدداته وكيفية تحقيقه لبناء سودان جديد تتعاظم فيه الأدوار الوطنية بعيدا عن القبلية والجهوية

أجرته: منال صديق

وقائع متعددة

على مدى السنوات الثلاث الأخيرة شهد المجتمع السوداني في كل أنحائه أشكالاً من الصدام في بين مكونات قبلية مختلفة، وتكررت حالات الاقتتال الأهلي في مناطق مختلفة من البلاد لأسباب موضوعية أو غير موضوعية، وفي فترات سابقة كانت تلك الصراعات حصرا على مناطق بعينها في غرب البلاد، ولكنها الآن طالت كل السودان، حتى ولاية الجزيرة شهدت أحداثا مشابهة، والبحر الأحمر، ونهر النيل.. وآخرها كانت الأحداث المؤسفة التي وقعت بولاية النيل الأزرق متمثلة الاشتباكات بين قبيلتي البرتا والهوسا، حيث راح ضحيتها 105 من القتلى و291 جريحا، بالإضافة إلى نزوح الآلاف.

مسؤولية الحكومات

الأستاذ أشرف أدهم

في البداية التقت (الطابية) بالأستاذ أشرف أدهم أستاذ علم الاجتماع والإنثربولوجيا بجامعة النيلين حيث ابتدر حديثه معرفا السلام الاجتماعي بأنه: “هو شعور أفراد المجتمع بكل مكوناته بالأمان والطمأنينة مع شعورهم بأن لهم القدرة في تحقيق احتياجاتهم الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية المختلفة ويقول أستاذ علم الاجتماع بجامعة النيلين بأن تحقيقه مرتبط بتوفر العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع والجهة الحكومة هي المسئول الأول عنه فحتى لا تحدث حرب عند غيابه لأن السلام ضده الحرب بسبب الظلم وهضم الحقوق ,فقيام صراع بين أطراف طرف يشعر بالظلم وطرف آخر يشعر بأنه يمتلك القوة فهنا لا يتحقق على الإطلاق”.. ويري أدهم أن تحقيقه مرتبط بالعقلية الحكومية ولابد من ترسيخه في أذهان أفراد المجتمع، فإذا كانت دكتاتورية متسلطة وهنالك محسوبية ومحاباة وتغليب جماعات على أخرى في المصالح، يطالب كل بحقه بصورة قد تكون خارج القانون مما يفشل السلام الاجتماعي وهنا تكون

أستاذ في علم اجتماع: تحقيقه مرتبط بتوفر العدالة الاجتماعية

الدولة مسئوله عن ضياعه لأن السلام الاجتماعي بالسودان وعلى امتداد الحكومات منذ الاستقلال لم تضع برامج تؤدي لسلام بمعني تحقيق العدالة الاجتماعية، أما حكومة الإنقاذ وخلال 30 سنة استبان أنها المسؤول الأول عن ضياعه السلام الاجتماعي فانتشرت المحسوبية وغلبت مصالح أقلية على أغلبية.

تمحور حول القبيلة

ويضيف أشرف متحدثا (للطابية) عن السلام الاجتماعي قائلا: ” إنه من العناصر المهمة للحياة الاجتماعية الواجب توافرها في كل المجتمعات، والمجتمع السوداني علي وجه الخصوص، وذلك لأن المجتمع لا ينمو في حالة غيابه، والسودان يشهد عدم استقرار للأمن والسلام الاجتماعي في مناطق جغرافية عدة مثل دارفور، وفي هذا مؤشرات تدل على عدم استقراره، والأحداث الأخيرة في النيل الأزرق وجه لذلك، فالتمحور حول القبيلة أخذ طابعاً متطرفاً منذ ثلاثة عقود سابقة للحكومة المخلوعة، التي عملت على تزكية الاستقطاب القبلي وتمكين قبائل مقابل قبائل أخرى بالسلاح والسلطة مما أدى لتفاقم الصراع القبلي حيث عملت على خرق الأعراف القبلية المتعارف عليها في المجتمع السوداني، وتلك الأعراف تقوم على أن أصحاب الأرض هم من يديرون شأنها سواء كان سياسياً أو اقتصادياً عن طريق الإدارة الأهلية، وهناك مثل تطلقه الإدارة الأهلية (ما في نظارة من غير طين)، بمعنى أنه لا يمكن تعيين ناظر أو عمده في مساحة جغرافية وهو ليس من أصحاب الأرض، ولكن الحكومة خرقت تلك الأعراف وسمحت لبعض الجماعات الوافدة بالمساكنة فيما يعرف بـ (الحواكير)، وفي العادة تكون تلك الجماعات تحت أمره صاحب الأرض، ولكن الحكومة الحالية غير مفهومة وتسير بنفس منوال الحكومة المخلوعة، فخرقت الأعراف القبلية، وعمدت إلى تمكين جهة غير أصحاب الأرض من إنشاء نظارة مستقلة، وبالتالي كل القبيلة تريد حماية نفسها وأرضها تستدعي أبناءها، وحتى الحركات المسلحة الموقعة علي السلام، مع إنها سياسية إلا أنها قامت على الطابع القبلي الذي هو ظاهر ومؤثر أكثر من السياسي، ولذلك سيكون التمحور مستمرا.. وأخيرا فإن ما حدث بين الهوسا والهمج رغما عن أن سببه الصراع علي الموارد إلا أن الاستقطاب الحكومي كان له أكبر الأثر، بالإضافة إلى هشاشة الدولة من الناحية الأمنية والشرطية، حيث لا تقوم بدورها الأساسي في تحقيق الأمن والسلام المفضيان إلى السلام الاجتماعي، فمهمتها بسط الأمن حتى يحدث سلام اجتماعي.

أمر متوقع وأحداث مشابهة

وأضاف ادهم: “على الدولة أن تعمل بطريقة تجعل الأفراد لا يلجؤون للقبيلة، مثلما حدث في منطقة النيل الأزرق، بالرغم من التهدئة التي تمت وهدوء الأوضاع إلا أنه توقع أن يتجدد الصراع مرة أخرى إذا ما وقعت مظالم، وقامت الحكومة بتمكين جماعة

باحث أكاديمي: هشاشة الدولة وضعف آلياتها وأدواتها أهم أسباب الصراع القبلي

على حساب أخرى.. ولم يستبعد أدهم تكرر ما حدث في منطقة جغرافية أخرى بالسودان، ولذات الأسباب من صدام حول الموارد أو السلطة ورأى ضرورة الوجود الحقيقي للدولة، فعدم امتلاك الدولة للقوة والقدرة على بسط الأمن والقيام بدورها في تحقيق العدالة الاجتماعية وفرض قوة القانون وهيبة الدولة وتحقيق المواطنة، فهذا إذا ما تم سيحد من التمحور حول القبيلة.

تنافس على الموارد

البروفيسور موسى آدم عبد الجليل مدير مركز أبحاث السلام جامعة الخرطوم وفي تصريح له لقناة النيل الأزرق أرجع أسباب ذلك الاقتتال الذي حدث بالنيل الأزرق إلى التنافس على الموارد سواء كانت موارد طبيعية أو موارد اقتصادية أو موارد سلطة، فالأخيرة نفسها تعتبر من الموارد، وأضاف أن التنافس حول هذه الموارد يحدث الخلط بين التجمعات على أساس العرق أو التجمعات على أساس المواطنة، وذلك نسبة لهشاشة الدولة، فيمكن القول بان السبب الأساسي لهذه الصراعات القبلية التي تنتشر في الدولة السودانية نتيجة لهشاشة الدولة، وعلاجه يكون بتقوية مؤسسات الدولة، ويري الباحث الأكاديمي أن من التصورات الخاطئة في علاقة المواطنين ببعضهم البعض، افتراض أن القبائل حقائق ثابتة، بمعنى أن كل الناس مصنفين بقبائلهم وأن هذه حقائق جامدة، فالقبائل نفسها هي عبارة عن تشكلات اجتماعية فيها الكثير من النسبية، فليس كل فرد يعتبر نفسه ينتمي لقبيلة معينة هو حقيقة ينتمي لأصل للقبيلة!!.. فالقبيلة نفسها هوية فيها وجهين؛ وجه يدعي الانتماء للجماعة وآخرين يعتبر نفسه من الجماعة، فهذان وجهان.

أدوات هوية خاطئة.. تكتلات مغلوطة

ووصف الباحث الأكاديمي موسى القبيلة بأنها تشكلات اجتماعية لا علاقة لها برابط الدم والأصل، فمعظم أدوات الهوية تتشكل من عناصر مختلفة اللغة التاريخ والجغرافيا والطموحات المشتركة، والدين، والأصل.. فالأصل عنصر واحد تشكله عدة عناصر من

باحث اجتماعي: التمحور حول القبيلة أخذ طابعاً متطرفاً والحكومة المخلوعة سببه

الجماعة المعينة؛ قبيلة أو عشيرة، يحتجب فيها الناس، مشيراً إلى أن الصراع في النيل الأزرق يسير بطريقة مشابهة للاقتتال في دارفور، ورأي أن هشاشة الدولة هي السبب الأساسي، سواء في دارفور، أو الأحداث الأخيرة بالنيل الأزرق، وطالب الدولة بضرورة التدخل لتنظيم التنافس بين السكان، فالتنافس شيء طبيعي ومشروع، لكن السكان أنفسهم لا يمكن أن يتحكموا في هذا التنافس، فأدوات الدولة مهمة لتحدد ما هو الشيء المشروع وما هو الكسب المشروع لهم في كيفية الوصول إلى مركب سلطوي بصورة مشروعة، فهذا ما تحدده مؤسسات الدولة، فغيابها عن أداء هذه المهام تجعل الناس يعتمدون علي روابطهم القبلية، والأمن واحد من المتطلبات الأساسية للحياة، إذا لم توفره الدولة يلجأ الناس إلى قبائلهم لتنجدهم وقت الشدة، والمعالجات القادرة علي إنهاء هذا الصراع تعتمد على إبعاد القبيلة عن الممارسة السياسية، لأن القبيلة تشكل إطارا سياسياً واجتماعيا واقتصادياً عاش فيها الإنسان قبل الدولة الحديثة، وبعد ظهور الأخيرة أخذت أهم وظيفتين من القبيلة هي الأمن والحوكمة، وبالتالي من المفترض أن تنكمش القبيلة ويقف مجالها فقط في الثقافة واللغة والعادات والتقاليد ومساعدة الناس فيما يشعرهم بانتمائهم الاجتماعي أما مجالات الأمن والسياسية فهي مجالات يفترض أن تكون حكرا لمؤسسات الدولة الحديثة، فمثلا توجد أحزاب سياسية وجماعات، وهذه يجب أن تكون قائمة على أساس غير قبلي

نشر ثقافة السلام

وطالب الباحث الأكاديمي موسى بضرورة إبعاد القبائل عن السياسية على أن تعمل المؤسسات الإعلامية والتعليمية على نشر الوعي بقضايا المواطنة الحديثة وحفظ حقوقها وواجباتها، والتسامح والتعايش مع الآخرين، وعلي المؤسسات التعليمية والوسائط الإعلامية أن تعمل على نشر ثقافة السلام، وعلي الوسائط البعد عن إذكاء خطاب الكراهية وبث روح العداء وسط الناس، بمعنى أن الجهد الذي يبذل من الإعلام تقلله وسائل التواصل الاجتماعي، وطالب موسى بضرورة وضع معالجات، فعلى الإعلاميين يصمموا برنامج تحد من انتشار خطاب الكراهية لأنه الأمر الذي يوفر الجو الذي يمكن دعاة الفتن من إشعال العصبية القبلية بالإشاعات والترويج.

أمن ووئام

كما التقت (الطابية) الدكتورة مي النجومي استشاري نفسي بمستشفى السلاح الطبي حيث ابتدرت حديثها بتعريف السلام الاجتماعي قائلة” السلام الاجتماعي يعني غياب العنف، الصراعات والنزاعات وغياب الخلافات ووقتها تكون الحياة

استشاري علم نفس: يتحقق بتوفر الاحتياجات الأساسية للفرد بشكل متساوي بدون ظلم وعنصرية

هادئة يشوبها الاستقرار والأمن والوئام، ويعيش الجميع في طمأنينة بدون خوف وبدون تهديد بدون مشاكل وصراعات، وبدون نزاعات عرقية، كما يتحقق بتوفر الاحتياجات الأساسية للفرد والمتمثلة في الغذاء والصحة والمعيشة بشكل متساوي بدون ظلم وبدون عنصرية أو قبلية، فكلما عاش الفرد في مجتمع توفرت له كل احتياجاته دون أن يشعر بنقصان معين أو ظلم يتحقق السلام بأفراد المجتمع بمختلف سحناته وسلوكياته وبمختلف ديانته أعراقه الاجتماعية يمكن أن يتعايش ويمكن أن ينصهر إذا يمكن يكون في سلام.

متطلبات متعددة

وأضافت استشاري العلاج النفسي أن متطلبات تحقق السلام الاجتماعي أيضا البعد عن كل ما يجعل الناس يدخلون فيصراعات كالإحساس بالغبن وبالتفرقة، عنصرية كانت أو عرقية أو حتى اقتصادية أو اجتماعية، فإذا ما توفرت تلك المتطلبات يعيش المجتمع بكل سلام وعدل، ورأت الدكتورة مي أن إزالة الصراعات والخلافات بين القبائل تتحقق بالتصاهر والتزاوج بين القبائل وإنشاء جمعيات وجماعات فنية من سحنات مختلفة، أو فرق رياضية تمثل المنطقة بقبائلها المختلفة، وتأسيس منابر ثقافية إعلامية تنشر ثقافة الوئام وثقافة التسامح بين القبائل، فكلما انتشرت ثقافة السلام بين القبائل كلما تحقق السلام الاجتماعي، عكس ذلك يكون سبباً لهدمه، فكلما انتشرت المنابر السالبة التي تندد بكل قبيلة بكل مجتمع، وتدعو للعنصرية، تندد بما هو سالب في قبائل بعينها، بما يثير الغبن والكراهية بين أفراد المجتمع.

من المحررة

لقد حرم الإسلام الاقتتال بين المسلمين وتعدي بعضهم على بعضهم البعض بقوله تعالى (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث التي تحث المسلمين على إرساء قواعد السلام الاجتماعي والمحافظة عليه وعدم الظلم والاعتداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه جابر بن عبد الله (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)، فهذا الحديث يرسم للمسلم منهجاً تربويا قائما على نبذ الظلم والشح، وبيانا لعاقبتهما في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا سفك الدماء واستباحة المحارم وانعدام الأمن والسلام بين الناس، وفي الآخرة ملاقاة العذاب والظلمات.
إن اختلاف مكونات المجتمعات والبنيات العرقية والدينية والآيدولوجية ليست سببا للكراهية بين أفراد المجتمع ولا للقتتال، إلا إذا توفرت أسباب أخرى تكون مدعاة لتأجيج الفتنة وزرع الغبن والكره والظلم وعدم تحقيق العدل وبالتالي تؤدي إلي نبذ السلام الاجتماعي والجنوح نحو العنف وتحقيق الأخير يكون بالاعتراف بهذه الاختلافات كضرورة تحفظ توازن المجتمع حتى يشيع الوئام الاجتماعي وتنتشر روح التكامل والتعاضد بين مكونات المجتمع و تتدرج مسؤولية الحفاظ عليه من الفرد للمجتمع والدولة والأخيرة هي المعنية بصونه لامتلاكها للأدوات والآليات التي تحققه وتحفظه,كما لابد من انتهاء حالة الاحتقان بالمشهد السياسي هو المؤثر الأكبر في السلام الاجتماعي لاعتبار أن السياسية والمجتمع يؤثران في بعضهما البعض سلبا أو إيجابا.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى