تحقيق: “9” طويلة.. انفلات أمني أم جريمة منظمة.. الأسباب والدوافع
"شبكة الطابية" تقترب من الملف وتفجر حقائق مذهلة
الطابية: قسم التحقيقات
روعت جرائم “9” طويلة المجتمع السوداني وولاية الخرطوم بشكل خاص، وباتت عمليات القتل والنهب والخطف والاعتداء، السمات الأبرز خلال الشهور الماضية، حتى بات أمر خطف الحقائب خبراً عادياً لا يجد ذلك الاهتمام في أول عهود الظاهرة.
وفي الآونة الأخيرة بدأت السلطات الأمنية، عقب قرار مجلس الأمن والدفاع، حملات مكثفة على أوكار الجريمة، بهدف كبح جماح الانفلات الأمني، والقضاء على عصابات الجريمة المنظمة، وإعادة الأمن وبسط هيبة الدولة.. تلك الحملات التي بدأت بأحياء غرب الحارات بأم درمان، ثم أحياء جنوب الخرطوم “الحزام” و”الأندلس”، ومنطقة “العزبة” بالخرطوم بحري، وغيرها من المناطق التي استوطنت تلك الأنماط من الجريمة.
هل هو انفلات أمني أم جريمة منظمة؟
“شبكة الطابية” نقّبت في خبايا الملف الشائك في هذا التحقيق.. ضابط رفيع في جهاز الأمن والمخابرات، وثيق الصلة بهذا الملف، فضل حجب إسمه، جلست إليه الطابية، فسرد وقائع مدهشة حول شبكات الإجرام التي روعت الخرطوم خلال الأشهر الماضية.
يقول الضابط “ع” أن الظاهرة في بدايتها كانت انفلاتاً أمنياً عادياً، مثل ذلك التفلت الذي يصاحب سقوط الحكومات، حيث يستغل المجرمون، الرخاوة الأمنية ويبدءون في تنفيذ عملياتهم، لكن دخول مجرمين جدد بالتزامن مع توقيع اتفاق سلام جوبا، حوَّل الظاهرة لجريمة منظمة، حيث سيطرت على الوضع عصابات لديها رئيس ومكتب تنسيق وعلاقات مع العصابات الأخرى وتحمل “أسلحة رشاشة”، وتمتلك دوراً ومقرات وتحتمي بالقانون، وهو الأمر الذي دفع مجلس الأمن والدفاع للتحرك العاجل لحسم العصابات في مهدهم قبل استفحالهم.
أنواع العصابات
من خلال التقصي الذي أجرته “شبكة الطابية” ومعلومات أدلى بها ضابط شرطة بارز، كان مشرفاً على اعتقال الدفعة الأخرى من المتهمين في منطقتي الثورة والعزبة، فإن هناك ثلاثة أنواع من العصابات تسيطر على الأوضاع بالخرطوم.
العصابة (أ)
هم المجرمون المفرج عنهم من السجون، العام الماضي عبر مبادرة عضو مجلس السيادة السابق، عائشة موسى، ويشير ضابط الأمن إلى أن هؤلاء المجرمين هم أول من بدأ جرائم “9” طويلة، مستغلين التراخي الأمني والإحباط الذي أصاب الأجهزة الأمنية، وهذا النوع من العصابات نادراً ما يلجأ لقتل ضحاياه، وإذا فعل ذلك سيكون في حالة الدفاع عن النفس أو في حالة أصر الضحية على عدم تسليم أمواله.
مصدر أمني يوضح لـ”شبكة الطابية”: أنواع العصابات التي تسيطر على عالم “9 طويلة”
وهذا النوع يتميز بأسلوبه البسيط في الإجرام، حيث يخطفون حقيبة فتاة أو هاتف لأحد الأشخاص في شارع طرفي ونادراً ما يلجؤون للقتل.
العصابة “ب”
هو نوع جديد، أغلبهم جاء عائداً من مصر عقب فشلهم في العبور إلى أوروبا، أو جاء هارباً للسودان عقب ارتكابه سرقات هناك.. وأوضح الضابط، أن هذا النوع خطر للغاية، وغالباً ما يلجأ لقتل ضحاياه، مشيراً إلى أنه خلال مراجعتهم لجرائم القتل بغرض السرقة، فإن معظم المتهمين كانوا في مصر وعادوا منها للسودان، حيث أصيبوا بالإحباط، وأغراهم التراخي الأمني بتنفيذ جرائمهم.
وهذا النوع يتحرك في شكل مجموعات، ويمارس نهباً مسلحاً في وضح النهار، وقد يلجؤون للسطو على المنازل والصيدليات والسوبر ماركت.
العصابة “ج”
وحسب الضابط هو النوع الأخطر، حيث يمتلكون أسلحة كبيرة “رشاشات وقرنوفات” وجميعهم من منتسبي للحركات المسلحة التي وقعت على اتفاق جوبا، ويحملون بطاقات عسكرية صادرة عن الحركات التي ينتمون إليها، وأغلبهم ضباط.
وأوضح ضابط جهاز المخابرات، أن دخول منتسبي الحركات المسلحة في جرائم “9” طويلة نبَّه السلطات الأمنية للخطر القادم، لكون الأمر تحول الآن للنهب المسلح، ما يمكن أن يقود لانهيار حقيقي في المنظومة الأمنية، مشيراً إلى أن بعضاً من تم قبضهم خلال الحملات الأخيرة يحملون بطاقات عسكرية تتبع لعدد من الحركات المسلحة.
وهؤلاء يرتكبون الجرائم الكبرى، وغالباً تلك التي تتعلق بالمركبات، حيث يقومون بسرقة السيارة أو الدراجة النارية أو الركشة، ويقومون بمساومة صاحبها بدفع أموال نظير إعادة المركبة له، وهؤلاء يكون لهم رئيس ومقر لتخزين المركبات وأشخاص منسقين وآخرون يقومون بعملية التفاوض مع صاحب المركبة، ولديهم دفتر أحوال يسجلون فيه المسروقات واسم السارق، ويمنحون نسبة “30”% للسارق من قيمة المدفوع، في حال كانوا مجموعة أو عشرة بالمائة حال كان شخصاً واحداً.
أسباب التراخي الأمني
عقب ثورة ديسمبر، تعرضت القوات النظامية لهجوم إعلامي كثيف، أفقدها لحد كبير الحماس. وكشفت معلومات تحصلت عليها “شبكة الطابية” أن التنمر وحفلات الإساءة للقوات النظامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي تلفزيون الدولة الرسمي أيام “قحت” خلق حالة من التذمر دفعت العديد من العسكريين للتمرد، وكشف الضابط بجهاز المخابرات عن حالات تسرب وسط ضباط الجيش والشرطة وجهاز المخابرات بالمئات.
هذا الوضع يرى مراقبون أنه كان سبباً رئيساً في التراخي الأمني الذي شهدته الخرطوم، بصفة خاصة والولايات عموماً، يضاف لذلك، والحديث لضابط الأمن، فإن استهلاك طاقة القوات النظامية في مكافحة الشغب والتظاهرات أرهق هذه القوات، وأمام حالات التسرب والإحباط والإرهاق تولدت العصابات المسلحة في الخرطوم، حتى كادت أن تحول البلد إلى كولومبيا جديدة.
يقظة متأخرة
عقب قرار مجلس الأمن والدفاع الوطني، نجحت القوات النظامية في شل عصابة شرق النيل بقيادة المتهم “كارا” الذي يحمل رتبة المقدم في الحركة الشعبية، حيث استسلمت العصابة بينما لقى زعيمها كارا، حتفه خلال تبادل إطلاق نار مع الشرطة.
أعضاء من لجان المقاومة بين المقبوض عليهم من أفراد العصابات!!
وفي أم درمان، أنهت القوات النظامية نشاط عصابة “باكوبي”، والمعلومات التي تحصلت عليها “شبكة الطابية” أن باكوبي كان ضابطاً في جيش رياك مشار، ثم انضم لحركات سلام جوبا، ورغم نفيه في فيديو متداول، غير أن باكوبي الذي تطارده القوات النظامية، يمثل العقل المدبر لعصابات الثورة الحارة السادسة والعشرين. من بين المقبوض عليهم أيضاً أعضاء في لجان المقاومة ومتهمين من الفئات الثلاثة أنفة الذكر.
وفي منطقة الحزام، “مايو والأندلس” جنوب الخرطوم، شنت القوات المشتركة حملة ضخمة، قبضت فيها على عدد من المتهمين.
الحملات الأخيرة جاءت عقب قرار مجلس الأمن والدفاع، وبرغم أنها أحدثت تأثيراً كبيراً وشلت نشاط العصابات وألقت القبض على نحو مائتي متهم، إلا أن ضابط الأمن “ع” أكد لـ”شبكة الطابية” أن الأمن، فعل يومي شأنه شأن الأكل والشرب، وأن نجاحه في استمراريته، وهو بحاجة لأموال وميزانية، مشيراً إلى أن نحو ألف وستمائة عنصراً شاركوا في الحملات الأمنية الأخيرة بالثورة والعزبة، وقال أنهم استطاعوا السيطرة على الموقف دون أي خسائر في أرواح المدنيين، برغم التسليح الجيد الذي كان بحوزة أفراد العصابة، مشيراً إلى أن هذا الفعل بحاجة لميزانية مفتوحة وأموال ضخمة لأن حركة ألف وستمائة جندي بحاجة لوقود وصيانة عربات وحوافز وخلافه، لافتاً إلى أن الحكومة السابقة عندما كانت تصرف على الأمن والدفاع صرف من لا يخشى الفقر، كانت تعرف الفاتورة الباهظة للأمن، وفي نفس الوقت كانت تعرف ماذا يعني الانفلات الأمني.
بلا جدوى
يقول الخبير الأمني، العميد أمن معاش ساتي سوركتي، أن الحملات الأمنية يمكن أن تنهي التفلتات الأمنية، لكن ما نعيشه الآن هو ظاهرة اجتماعية تسببت فيها عدة عوامل ومن الضروري أن يكون الحل شاملاً.
وقال سوركتي في افادة لـ”شبكة الطابية” أن الحملات الأمنية لن تنهي الظاهرة، لكونها تولدت لعدة أسباب، من بينها القصور الأمني وأسباب أخرى منها سياسي واقتصادي، وما لم تحل جميع أسبابها فإن الحملات الأمنية تبدو مثل “بندق في بحر”.
وأشار سوركتي إلى أن ظاهرة “9 طويلة” بهذه الضخامة هى حالة مصنوعة من الجهات التي تفعل الآن وتنزل أهدافها في الدولة السودانية، قاطعاً بأن الحل سياسي واقتصادي، ونعى الخبير الأمني، الدولة السودانية وقال أنها الآن لا ترعى أوضاع الشعب الاقتصادية، وهو ما ساعد في تفشي الظاهرة.
العميد ساتي سوركتي: “9 طويلة” مصنوعة، والحل الأمن غير مجد
وشدد سوركتي، على أن الحملات الأمنية ليس الحل، لأن أسباب المشكلة لا تزال قائمة وكثيفة، وأضاف “من هذه الأسباب ضعف الأداء الراتب لأجهزة الدولة عموماً والمرتبطة بالحالة الاقتصادية السيئة والمنفلتة ولا توجد الآن تقريباً دولة ترعى شؤون الناس الاقتصادية وتنظمها وتصون سلامتها القانونية والعملية في حدود مناسبة”.
وبالنسبة لسوركتي فإن وجود الحركات المسلحة غير المنضبط راكم من هذا الوضع ما أدى إلى تفشي الظاهرة وتحولها من تفلتات إلى حالة اجتماعية، وتابع سوركتي، “الإجراءات الأمنية ضعيفة وتأثيرها محدود، وأضاف: وأنا الآن أعزي في وفاة الدولة السودانية بكل مؤسساتها وخصوصاً مؤسساتها الأمنية، سيكون للحملات أثر طفيف لكنها لا تشكل الحل، الحل سياسات دولة وأداء أعمالها واقتصادها”.
رغم الحديث المتكرر حول أن الحل ليس أمنياً فحسب، غير أن الدولة فيما يبدو لا تجيد أو لا تملك في الوقت الراهن غير الحلول الأمنية، حيث لا يزال المناخ السياسي ضبابياً في ظل توقف الحوار السياسي، بينما يرزخ الاقتصاد في أسوأ أوضاعه ويزداد هذا السوء مع شروق شمس كل يوم جديد. بخلاف ذلك فإن الحلول الأمنية نفسها كلفتها عالية جداً وقد ترهق الدولة في حال استمرارها دون أن يكون لها جدوى عملية في المنظور القريب، وبينما يرهن ضابط الأمن، الذي تحدث لـ”شبكة الطابية” على نجاح الحل الأمني في إنهاء الظاهرة شريطة ديمومته، يرى الخبير الأمني العميد امن معاش ساتي سوركتي، أن تأثيره طفيف للغاية، بينما ستعود الظاهرة أكثر شراسة.