زيارة البرهان إلى تركيا.. قراءة في سياق “الحرب” متعددة الأسلحة

تقرير: الطابية
في ظل هذه الحرب الوجودية التي فُرضت على الشعب السوداني، بمشاركة فاعلين دوليين وإقليميين، لا ينبغي النظر إلى التحركات الخارجية للقيادة السودانية على أنها مجرّد زيارات بروتوكولية عادية! بل لابد من قراءتها بوصفها جزءًا من معركة أوسع على مستقبل البلاد. فكل لقاء خارجي، وكل صورة رسمية، تحمل في طياتها رسالة سياسية تتجاوز المجاملات الدبلوماسية.
من هذا المنظور، تبدو الزيارات الخارجية الأخيرة التي قام بها رئيس مجلس السيادة، القائد العام للجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، التي شملت المملكة العربية السعودية، ومصر، وأخيراً تركيا.. ولكن زيارة البرهان إلى تركيا تبدو خطوة محسوبة في سياق الحرب مع مليشـ يا الدعـ م السـ ريع، ومحاولة لإعادة وضع السودان في خريطة إقليمية ودولية ما زالت تتعامل مع النزاع بكثير من التردد والالتباس.
معركة الشرعية وخطاب “توازن الطرفين”
ومنذ اندلاع القتال، لم يواجه الجيش السوداني خصمًا عسكريًا مدعوماً من حلفاء دوليين وإقليميين فحسب، كما لم تكن المواجهة ميدانية فقط، بل وجد نفسه أيضًا في مواجهة معركة معقّدة تستهدف شرعيته وشرعية الحكومة التي يستند إليها. فتبنّي بعض القوى الدولية خطاب “توازن الطرفين”، والتعامل مع الصراع كأنه خلاف بين جنرالين متنافسين، أضعف صورة الدولة السودانية، وفتح الباب أمام المليشـ يا لتقدّم نفسها، ولو إعلاميًا، كفاعل سياسي موازٍ.
في هذا السياق تحديدًا، تكتسب زيارة البرهان إلى أنقرة معناها الأعمق: فهي محاولة لكسر هذا الإطار المربك، وإعادة التأكيد على أن الجيش هو المؤسسة الوطنية الشرعية المنوط بها الدفاع عن الشعب السوداني، وعن الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى تأكيد شرعية الحكومة القائمة، بشقيها السيادي والتنفيذي.. ففي نفس الوقت كان رئيس الوزراء كامل إدريس يمارس دوراً مشابهاً، خلال تمثيله السودان في أروقة مجلس الأمن الدولي.
علاقة وطيدة بدون صخب
العلاقة بين السودان وتركيا خلال الحرب لم تكن صاخبة أو معلنة على الدوام، لكنها لم تنقطع. فمنذ أبريل 2023، حافظت أنقرة على قنوات تواصلها مع بورتسودان.
اختارت تركيا موقفًا يقوم، في جانبه المعلن، على الدعوة إلى وقف إطلاق النار، مع التأكيد الحفاظ على وحدة السودان، والحفاظ على المؤسسات الوطنية في السودان (الحكومة، والقوات المسلحة)، من الانهيار..هذا بجانب رفض سيناريو التفكك أو سيطرة المليشيات غير النظامية.
وعلى الأرض، اقتصر الدور التركي على الدعم الإنساني والإغاثي، عبر مساعدات طبية وإنسانية للمدنيين المتضررين من الحرب، دون انخراط عسكري معلن أو إعلان انحياز صريح لأي طرف، ولكن تظل الملفات غير المعلنة بيد العسكريين وحدهم.
وخلال هذه الفترة، أيضاً، جرت اتصالات ولقاءات غير معلنة لمسؤولين من الجانبين، غالبًا على هامش مناسبات إقليمية ودولية، بهدف تبادل التقديرات حول مسار الحرب.
من هنا، تأتي زيارة البرهان بوصفها أعلى مستوى تواصل علني بين البلدين منذ اندلاع الصراع، وتعبيرًا عن رغبة متبادلة في نقل العلاقة من إدارة الأزمة إلى إعادة تفعيل الشراكة السياسية مع مؤسسات الدولة السودانية.
اختيار تركيا كحليف استراتيجي، في هذا السياق، لا يبدو تفصيلًا عابرًا. فأنقرة تمثل قوة إقليمية “وسطى” لا تتحرك بالكامل وفق الإملاءات الغربية، ولا تعيش في عزلة دولية. وهي، في الوقت نفسه، تملك خبرة طويلة في التعامل مع دول تمر بصراعات داخلية، وتقيم علاقات براغماتية مع حكومات عسكرية دون أن تجعل الملفات السياسية الداخلية شرطًا لكل تعاون.
بالنسبة للبرهان، تبدو تركيا شريكًا مناسبًا في لحظة يسعى فيها الجيش إلى توسيع هامش الحركة، وكسر العزلة النسبية التي أحاطت به خلال الشهور الماضية.
رسائل إلى الداخل والخارج
الزيارة تحمل أيضًا رسائل واضحة إلى الخارج. فهي تقول، بلغة هادئة، إن الخرطوم ليست أسيرة لموقف واشنطن أو بروكسل، وإن استمرار الغموض الدولي تجاه شرعية الدولة سيدفعها إلى البحث عن مسارات وعلاقات بديلة.
كما توجّه، في الوقت نفسه، رسالة غير مباشرة إلى بعض القوى الإقليمية المتهمة بدعم المليشـ يا، مفادها أن ميزان التحالفات ليس ثابتًا، وأن الجيش قادر على إعادة ترتيب أوراقه الإقليمية متى ما اقتضت المعركة ذلك.
أما داخليًا، فالزيارة تسعى إلى ترميم صورة الدولة في وعي الرأي العام. فظهور البرهان في عاصمة إقليمية مؤثرة، واستقباله بصفته رئيسًا للدولة، يؤكد أن المؤسسة العسكرية ما زالت تمسك بخيوط الشرعية والتمثيل الخارجي. وفي المقابل، تظهر المليشـ يا كقوة بلا اعتراف دبلوماسي حقيقي، محصورة في شبكات غير رسمية، ومثقلة باتهامات الانتهاكات وغياب أي مشروع وطني جامع.
مع ذلك، معلوم أن الدبلوماسية وحدها لا تكفي لحسم حرب بهذا التعقيد، والزيارات الخارجية لا توقف القتال، ولا تعيد الاستقرار تلقائيًا.. ومفهوم كذلك أن تركيا نفسها تتحرك وفق حسابات مصالحها، ولن تذهب في دعم السودان إلى ما يتجاوز تلك الحسابات.. ولكن تظل هذه الدبلوماسية واحدة من الأدوات المؤثرة بقوة في معركة يرسم “التدويل” كثيراً من ملامحها، ويتحكم بدرجة كبيرة في مساراتها.. والمعارك المتعددة الأوجه، تواجه كذلك بأسلحة متعددة المجالات.. ولذلك، في الحد الأدنى، تمثل الزيارة اختراقًا سياسيًا مهمًا، ومحاولة واعية لنقل جزء من المعركة من ساحات السلاح إلى فضاءات السياسة.
في المحصلة، تبدو زيارة البرهان إلى تركيا حلقة في إستراتيجية أوسع لإعادة تعريف الصراع السوداني: من حرب بين طرفين مسلحين، إلى مواجهة بين دولة تسعى لاستعادة سيادتها، ومليشيا تنازعها بالقوة. إنها رسالة مفادها أن الحرب في السودان لا تُحسم بالسلاح وحده، بل أيضًا بإعادة بناء الشرعية، وترميم موقع الدولة في نظام إقليمي ودولي لا يعترف إلا بمن يجيد لغة القوة، ويعرف في الوقت نفسه كيف يتحدث بلغة السياسة.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس



