عودة البنك الدولي إلى السودان.. مخاوف وآمال!!

تقرير: الطابية
في مطلع ديسمبر الجاري، وصلت إلى وزارة المالية السودان في بورتسودان أول بعثة رفيعة المستوى من البنك الدولي منذ تعليق العلاقات في 2021..في هذا اللقاء، أعلن البنك الدولي أنه سيستأنف تمويل مشروعاته في السودان” بمحفظة تمويل تبلغ تقريباً 540.2 مليون دولار متاحة للمشروعات التي تحددها الحكومة السودانية.
عاد البنك الدولي رسمياً إلى السودان بعد أربعة أعوام من تعليق كامل برامجه عقب ما سُمي بإجراءات أكتوبر 2021 التي أطاح فيها الرئيس البرهان بحلفائه من أحزاب قوى الحرية والتغيير.
ووصفت الخطوة بأنها من أكثر التحركات الدولية تأثيراً على المسار الاقتصادي والإنساني للبلاد منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، واعتبرت، من قبل كثير من المحللين، بداية عملية لإعادة تفعيل المحفظة التمويلية بالمبلغ المذكور، مع حديث في بعض المصادر عن مبالغ أوسع قد تصل إلى 700 مليون دولار في مراحل لاحقة.
يأتي التحرك الدولي الجديد في وقت يعاني فيه الاقتصاد السوداني من واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخه الحديث، والبنك الدولي نفسه قدّر في 2025 أن اقتصاد السودان انكمش بنسبة كبيرة، وأن الفقر قد يطال نحو 71٪ من السكان إذا استمر النزاع. فالحرب أدت إلى توقف آلاف المؤسسات، ونزوح ملايين السكان، وانهيار العملة، وتصدّع شبكات الخدمات، ما جعل عودة مؤسسات التمويل الدولية أمراً حتمياً بالنسبة للسلطات السودانية.
تاريخ العلاقة بين السودان والبنك الدولي:
بدأ تعامل البنك الدولي مع السودان في ستينيات القرن الماضي، حيث موّل مشروعات كبيرة في الزراعة والبنية التحتية باعتبارها الركائز الأساسية للاقتصاد السوداني. ومع نهاية الثمانينيات، دخل السودان في أزمة ديون خانقة أدت إلى تراكم المتأخرات، فتوقّف البنك الدولي عن تقديم القروض واكتفى بالدعم الفني والاستشارات طوال التسعينيات وبداية الألفية.
عاد التواصل تدريجياً في الفترة بين 2000 و2010 عبر منح محدودة وصناديق دعم مرتبطة ببرامج السلام وإعادة الإعمار، دون تمويل مباشر للحكومة بسبب استمرار المتأخرات.
وبعد سقوط نظام الإنقاذ في 2019 شهدت العلاقة بعض التطور، حيث حصل السودان على تمويل لبعض برامج ما سُمي بالإصلاح الاقتصادي، وبعض المشروعات الخدمية مثل برنامج “ثمرات” الذي كان محدود الأثر بشكل مخيب للآمال.. استمر الوضع هكذا إلى أن أوقف البنك التمويل بالكامل، عقب إجراءات أكتوبر 2021.
أولويات التمويل:
بحسب ما أعلنته وزارة المالية ومصادر في البنك الدولي، فإن الحزمة التمويلية الجديدة ستُوجَّه نحو قطاعات تضررت بصورة مباشرة من الحرب، وتشمل:
– إعادة الإعمار وتأهيل الطرق والجسور في المدن بالذات في وسط السودان (الخرطوم، كردفان، دارفور، والجزيرة).
– دعم قطاع الصحة وإعادة تشغيل المستشفيات والمراكز الصحية الأساسية.
– إعادة تأهيل شبكات المياه والكهرباء، مع إدراج مشاريع للطاقة البديلة.
– دعم التعليم وتوفير برامج لعودة المدارس للعمل.
– تمويل قطاع الزراعة والإنتاج الزراعي لتقليل الاعتماد على الواردات وتحسين الأمن الغذائي.
– برامج الخدمات الأساسية للمناطق الأكثر تضرراً.
وستتولى الحكومة السودانية تحديد أولويات المشروعات، مع وجود “آليات رقابة مشتركة” لضمان شفافية التنفيذ.
وإذا ما تم تنفيذ المشروعات المعلنة، فمن المتوقع أن تسهم في؛ إنعاش أسواق العمل، وتحسين توفير السلع الأساسية، ودعم عودة النازحين والمشردين إلى مناطقهم، بجانب إعادة بناء البنية التحتية الأساسية.. لكن يبقى النجاح مرتبطاً بمدى قدرة الحكومة على توفير بيئة مستقرة، وضمان الشفافية، وتجنب الالتفاف على التمويل لأغراض سياسية.
جدل داخلي… آمال ومخاوف:
تعلّق قطاعات واسعة من السودانيين آمالاً كبيرة على عودة البنك الدولي، خصوصاً أن التمويل يستهدف قطاعات حيوية توقفت خلال الحرب.. فالآلاف ينتظرون إعادة تشغيل المستشفيات والمراكز الصحية، بينما تعاني مناطق واسعة من انعدام الكهرباء والمياه، إضافة إلى انهيار القطاع الزراعي الذي يُعد الركيزة الأساسية للأمن الغذائي في البلاد.
ولكن من جهة أخرى، ورغم الترحيب الواسع من الحكومة، أثارت عودة البنك الدولي نقاشاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية والسياسية. فقد حذّر عدد من الخبراء من أن خطوة البنك، بالنظر إلى التوقيت الحساس الذي جاءت فيه، قد تكون مرتبطة بـ”صفقة سياسية إقليمية” تهدف إلى الضغط على الحكومة من أجل فرض رؤية ما يسمى بـ”دول الرباعية”، بجانب رعاية مصالح بعض القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوداني، كجزء من ترتيبات إعادة تشكيل النفوذ الإقليمي في السودان.
كما أبدى خبراء آخرون مخاوف من قدرة مؤسسات الدولة الحالية على إدارة التمويل بكفاءة، في ظل بيئة مضطربة، ونظام مالي هش، واتهامات سابقة بسوء استخدام المنح الدولية.
التجربة سابقة غير مشجعة:
تدعم تلك المخاوف السابقة، الانتقادات الموجهة للتجربة السابقة للبنك الدولي مع السودان خصوصاً في عهد نظام الإنقاذ، وينظر الكثيرون إلى البنك الدولي، على أنه أحد أسباب الانهيار العملة السودانية!.. حيث قدم وصفات اقتصادية للسودان اعتمدت بشكل أساسي على خفض قيمة الجنيه السوداني، ورفع الدعم عن السلع.
واجهت تلك الوصفات الاقتصادية انتقادات واسعة، إذ اعتبرها خبراء اقتصاديون مفرطة في تحرير الأسعار ورفع الدعم عن الوقود والقمح والكهرباء، مع إغفال توفير شبكات حماية اجتماعية فعّالة.
وأشار خبراء إلى أن البنك ركّز على تقليل الإنفاق الحكومي عبر خفض الدعم، لكنه لم يضغط بما يكفي لإصلاح الجهاز الحكومي، أو شفافية المالية العامة، أو مكافحة التهريب وتعدد أسعار الصرف، وهي عوامل رئيسية في الأزمة.
ورأى اقتصاديون سودانيون أن البنك الدولي اعتمد على نماذج إصلاح مطبقة في دول مستقرة، بينما كان السودان يواجه حروباً داخلية، عقوبات خارجية، وتراجعاً كبيراً في الإنتاج. الأمر الذي جعل تلك الوصفات غير قابلة للتطبيق في الواقع.
وفي النهاية أدّت هذه السياسات لتحميل المواطنين العبء الأكبر للأزمة الاقتصادية، وزادت من معدلات الفقر وعدم المساواة، دون معالجة جوهر المشكلات المتمثلة في الفساد وضعف المؤسسات الحكومية، أو مراعاة الظروف الأمنية والاقتصادية غير المستقرة في البلاد.
وعموماً، تشكل عودة البنك الدولي إلى السودان منعطفاً مهماً في مسار تعافي البلاد من آثار الحرب، لكنها في الوقت نفسه خطوة محفوفة بالأسئلة والاختبارات. بين الترحيب الرسمي والآمال الشعبية من جهة، والمخاوف من النفوذ الخارجي وضعف الرقابة من جهة أخرى، تبدو المرحلة المقبلة حاسمة في تحديد ما إذا كانت هذه العودة ستشكل بداية لإعادة بناء الدولة، أم مجرد محاولة إسعافية محدودة، قد تعيد إخفاقات الماضي، خصوصاً في ظل هشاشة المؤسسات الاقتصادية في البلاد.



