
في الأدب السياسي السوداني جملةٌ من المصطلحات المنحوتة، التي شقيت بها البلاد وأهلها.. ولست أدري هل كان مخترعها يحسب، حين نحتها وأخرجها للوجود، أنها ستكون قنابل نووية شديدة التدمير؟!..وهل كان أولئك الذين يلوون ألسنتهم بتلك “الكلمات المتفجرة” ويلوكونها ليبهروا السامعين برنينها، أو يخلبوا بجرسها ألباب المتلقين، أنهم إنما يشعلون الحرائق في أديم هذا البلد الذي يزعمون الانتماء إليه؟!!..
ومصطلحان مثل مصطلحي”المهمشين” و “دولة 56″، ما هما إلّا نموذجان لتلك الشعارات الكارثية، التي أطلقتها العاهات السياسية، التي تُسمّى أحزاباً قوىً سياسية، تلك التي ابتلي بها هذا البلد!!..
أسوأ الحروب في السودان دارت رحاها بمدد من تلك الشعارات البائسة التي تم الترويج لها عن قصد وحشدت لها الأموال والأفواه والرجال.. فصارت أناشيداً للحقد والكراهية، وانجرَّت خلفها الجموع البائسة تحرق وتدمِّر، بلا وعي، مستقبلها ومستقبل بلادها، وترجع بمجتمعها إلى عصور ما قبل التاريخ..
وتحت راية “التهميش” و”المهمشين” دارت الحرب التي فصلت جنوب السودان، وتركت الحرائق لا تزال مشتعلة في جبال النوبة والنيل الأزرق..وتحت تلك الراية دارت حرب دارفور قريباً من عشرين عاماً..ونبتت في أرضها الحركات المسلحة كما تنبت الأعشاب في الأرض البور!..
و”الهامش” شعار يستطيبه شذاذ اليسار، مدعو الثقافة من ناشطي البؤس السياسي، فهم الذين نحتوه وأطلقوا لهوامه السامة العنان، فتلقفه عنهم من هم أشد بؤساً من منتحلي الثورية والنضال، ومن أصحاب المشاريع الذاتية والطموحات الشخصية الرخيصة، والباحثون عن زعامة يتفجَّجون بها مكاناً لكرسي على طاولة السلطة السياسية، بغير جهد سوى الضجيج وإشعال الحرائق في الأشجار المثمرة!!.
تحت هذا الشعار، أُجِّجت كوامنُ النعرات من كل نوع؛ جهوية وعرقية وقبلية..صار أبناء كل جهة وعرق نوع، يكتشفون، فجأة وبدون مقدمات، أنهم أكثر من وقع عليه ظلمٌ وأشد من هضمت حقوقه، فمضوا يدبّجون قوائم المطالب، ويذيلونها بالتهديد بالانفصال وتقرير المصير!!.
وجاءت ثورة ديسمبر، وقامت دولتها..بعد أن رفعت ثلاثيتها الشهيرة (حرية سلام وعدالة)، وتلك الثلاثية نسجتها نفس الأيدي التي نسجت شعار الهامش!!..
وذات صباح فركنا أعيننا وفتحناها، فإذا بأرض السودان كلها قد تحولت بفعل هذا الشعار إلى خطوط مسارات، لأهل كل جهة خطهم ومسارهم.. في الشرق (مسار)، والوسط (مسار) وفي الغرب (مسار) وفي الشمال (مسار)!!.. تشابكت الخطوط وتشاكلت المسارات، وامتلأت بها خارطة البلاد، ولكن غاب عنها مسار واحد، وهو (مسار الوطن)!!.
أما دولة 56 فهي الشعار الذي اكتمل به الحريق.. بعد 67 عاماً من الاستقلال اكتشف السودانيون أن أكبر مشاكلهم، ليست الفساد، وليس قصور التنمية، وليس الفشل الاقتصادي المتكرر، وليس غياب المشروع الوطني لدى كل القوى السياسية، وأن تلك التي أفرزت المتوالية السلطوية (العسكرمدنية) ليست جزءًا الأزمة!!..لكن الأزمة هي شيء واحد لا غير، هو (دولة 56)!!..وهكذا بدون تفصيل ولا تحليل ولا تفكيك ولا تشخيص ولا محاكمة..قرر هؤلاء أن دولة 56 هي المذنب المدان، وأصدروا عليها حكماً بالإعدام حرقاً حتى الموت!!.
نفس الذين صنعوا عقود الفشل السياسي في السودان، من أحزاب البوس السياسي، جاؤوا بوجه آخر، فصنعوا دمية من القش وألبسوها فشلهم وبؤسهم، وكتبوا عليها (دولة 56)، ثم أشعلوا النار فيها!!..
(قحت) بأحزابها المتنافرة، التي تمثل القديم الرجعي، والحديث التقدمي، وحميدتي ودعمه السريع، الذي هو نتاج لفعل الانقلابيين من العسكر، وحواضنه من الإدارات الأهلية، اجتمعت في هذا التحالف كل أركان الظاهرة (العسكرمدنية)..فهذه الكتل مجتمعة، في الحقيقة، كانت هي المسؤولة عن بؤس الدولة السودانية.. وبدلاً من أن تبحث عن الحلول المنطقية والمعالجات المدروسة لأزمة الدولة السودانية، عمدت إلى نفس أساليب اليسار التقليدي؛ صناعة الشعارات الرنانة، وإضرام الحرائق حولها، ثم الرقص حول ألسنة اللهب!!..ولكن هذه المرة كانت اللهيب كبيراً جداً..كبيراً بحجم السودان كله!!.
الآن وقد بدت ألسنة اللهب آخذة في الخمود، واستبان الطريق حين انهار مشروع تدمير البلاد وتفتيتها.. فإنه يجب على هذا الجيل من السودانيين الذين أنضجتهم نيران الحرب، أن يزيحوا عن وعيهم كل أثر لمخلفات الفكر السياسي السقيم الذي قادنا لتلك المحرقة.. وألا يتيحوا فرصة لدجاجلة التنظير السياسي ليفكروا نيابة عنهم.. لقد مضى زمن القيادة بالشعار.. لقد آن الأوان في السودان ليمحو من دفتره كل الخطوط المتشابكة والمسارات السقيمة، علينا أن نمحو بعمق حتى تصبح الصفحة بيضاء كاملة البياض.. فالصفحة البيضاء لا (هامش) فيها!!.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس