أقلمة الصراعات المحلية.. تمرد حميدتي نموذجاً!!
أحمد غباشي
التركيب الغريب للحالة الأمنية في السودان الذي أفرزه تمرد الدعم السريع ، هو مسألة تحتاج من المهتمين بالسياسة الدولية، ومجال (المستقبليات)، الوقوف عندها، فنحن بإزاء ظاهرة جديدة، يمكن أن تشكل نمط الحروب القادمة في المنطقة، وهو نموذج تم تطبيقه في السودان، ولكنه يمكن صالحاً للنقل إلى مناطق أخرى من القارة، ومناطق القارات الأخرى ذات أوضاع شبيهة.
إن الحرب غير المنطقية التي أشعلها الدعم السريع في السودان، لهي ظاهرة حُبلى بالمؤشرات التي يجب الوقوق عندها، لأن (أقلمة الصراع)، بمعنى؛ “الانتقال من الحروب الأهلية إلى الحروب الإقليمية” هو أمر جديدة في تاريخ الصراعات في القارة الإفريقية، بل في العالم.. ففي حرب السودان نحن بأزاء نموذج مختلف، فهي ليست حرباً بين منطقتين داخل دولة واحداً، مثل حرب الجنوب! ولا هي صراع بين مجموعتين عرقتين داخل دولة واحدة مثل حرب رواندا التي أفضت إلى الإبادة العرقية الأسوأ في التاريخ الإفريقي! وليست تمرداً لإثنيات معينة على حكومة مركزية تستعين في أخضاعهم بإثنيات أخرى مثل حرب دارفور الأولى!.. كما هي ليست صراعاً قائماً على أساس الطائفية الدينية مثل نموذج إفريقيا الوسطى في العام 2013م!!. إن الظاهرة في هذه المرة هي مزيج من الصراع السياسي في جسم الدولة القائم على الطموح الشخصي والانقسام السياسي، والتعصب القبلي، والنزوع الجهوي، ويتجاوز حدود الدولة إلى الإقليم، وفوق ذلك لا يقوم في ظاهره على أسباب منطقية، أكثر من كونها وجهاَ من وجوه التدبير الدولي، لإحداث أكبر حالة للفوضى المقصودة بذاتها.. فقائد الدعم السريع كان جزءًا لا يتجزأ من مطبخ الدولة، فهو نائب رأس الدولة، الذي دفع به الطموح السياسي إلى التمرد من أجل الاستيلاء على السلطة باستغلال الصراع السياسي بين المكونين العسكري والمدني، واستخدم في سبيل طموحه ذلك، أو دُفع لاستخدام شبكات النفوذ الخارجية وما توفره من دعم مادي مقابل تحقيق أهدافها في البلاد، وثم استغل امتداده القبلي المتجاوز لجغرافية السودان إلى الجغرافية الإقليمية الأوسع في منطقة الساحل والصحراء..لينتهي في النهاية لإشعال حرب إقليمية مسرحها السودان، تشارك فيها مجموعات قبلية ذات امتدادات في عدة دول في الإقليم، هذه الحرب مسنودة بشبكة داعمين خارجيين تشكل نسيجها من دول في المحيط الإفريقي والمحيط العربي، ومن وراء كل هؤلاء يقف دعم وإسناد سياسي وعسكري دولي، يتمثل في مجموعة الدول الغربية التي تساند، في الخفاء، المليشيا وحلفاءها.
إن مشاريع الاستثمار في الفوضى، لإعادة تشكيل المشهد السياسي إقليمياً أو محلياً أو دولياً، كانت واحدة أوجه صراع النفوذ بين الدول العظمى، الذي وقعت إفريقيا فريسة له، وإن الذي يحدث في السودان الآن هو أحدث أشكال تلك المشاريع، وما زال في مرحلة اختبار الفروض، وتقييم النتائج.
وصراع النفوذ بين الدول العظمى، خلال هذا القرن والقرن الماضي، أخذ أشكالاً متعددة، أبرزها وأطولها،كانت الحرب الباردة بين المعسكرين (الشرقي الشيوعي) الذي مثله، في ذلك الوقت، الاتحاد السوفييتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه، والمعسكر الغربي الرأسمالي الذي مثلته الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية ومن يدور في فلكها، وامتدت تلك الحرب البارد منذ فترة ما بعد الحرب الكونية الثانية إلى بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، لتنتهي بانهيار الاتحاد السوفييتي، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بالهيمنة على العالم، لتبدأ حقبة القطبية الأحادية، سيئة الذكر، وهي الفترة التي شهد فيها العالم أسوأ أنواع التكالب، حيث أعادت تلك الكتلة الغربية إلى الوجود مرة أخرى، نماذج الحروب الصليبية، والغزو العسكري الاستعماري، وأشد أنواع التدخلات في شؤون الدول سفوراً، ابتداءً بتدخل أمريكا عسكرياً لاختطاف رئيس بنما السابق إيمانويل نوريغا، وجلبه إلى واشنطن ومحاكمته والزج به في السجون الأمريكية، مروراً باجتياح العراق عسكرياً من قبل دول التحالف في حرب الخليج الثانية، ثم التدخل في الصومال، ثم غزو أفغانستان ومحاولة أخضاعها بالقوة، وبعدها غزو العراق واحتلاله احتلالاً مباشراً ونصب حاكم عسكري أمريكي فيه، تماماً على النمط الهمجي الاستعماري القديم الذي توافق العالم على إنهائه بعد الحرب العالمية الثانية!..
ثم جاءت مرحلة أخرى هي أشد سوءًا من سابقتها، في العبث بمصائر الشعوب، ورسم سياساتها، وتقسيم خرائطها، لتكشف أمريكيا وحلفائها عن الوجه الأقبح الذي لا يعرف قيمة للأنفس البشرية، ولا يكترث لحقوق الأمم والشعوب في الحياة، حينما خرجت تلك الكتلة المستبدة بمشاريع مثل (الفوضى الخلاقة)، و(المليار الذهبي) وغيرها أنماط الجنون النازي في نسخته الغربية الجديدة!!..ليعيش العالم فترة جديدة هي أسوأ من سابقتها في كثافة الدماء المراقة، ولكن هذه المرة بأيدي أبناء الشعب الواحد بعضه البعض!!.. للحظة واحدة ضربت منطقة وسط العالم بموجة من الحروب والتناحر الأهلي غير مفهوم الأسباب، وكان مسرحه آسيا وإفريقيا.. وتزامنت تلك الموجة مع بداية نهوض (طائر الرخ ) الشرقي من جديد!!..هذه المرة عادت روسيا تبحث عن مكانها السابق في العالم، ورفعت الصين رأسها تبحث مكان تزاحم فيه الدول الكبرى التي انفردت تتقاسم ثروات العالم.. فجاء الصينيون والروس يزاحمون على الأرض والمصالح والثروات، ويقولون لتلك الدول نحن ما زلنا أحياء وسنأخذ مكاننا على هذا الكوكب!!..
غرست روسيا الصين قدميهما في قلب إفريقيا، وشيئاً فشيئاً بدأتا تسحبان البساط من تحد أصحاب النفوذ الموروث من الحقبة الاستعمارية!.. فرنسا كانت أكثر القوى العظمى تضرراً من النفوذ الروسي، فقد بدأت الأرض تتناقص من تحت أقدامها، فقدت إفريقيا الوسطى، ثم فقد مالي، وفقدت النيجر، وهكذا في كل يوم تفقد ارضاً جديدة في إفريقيا كانت تمتص ثرواتها بدون حياء، وتترك أهلها في البؤس الفقر.. تنسحب الأرض من تحت أقدامها، وتنبسط تحت أقدام السيد الروسي الجديد، الذي يوفر المصالح والحماية للأنظمة الراغبة في البقاء لأطول فترة ممكنة!!..
فماذا تفعل فرنسا والدول الغربية الغربية وهي تفقد مصالحها في إفريقيا، وتفقد الثروات الطبيعية التي تعتمد عليها بنسبة 80% في بقائها دولاً عظمى؟!.. لا سبيل إلاّ الزج بالمنطقة في أكبر حالة فوضى، والاستمرار في تأجيج الصراع، وفي هذا الوقت تنهب الثروات بغير رقيب ولا حسيب، وتحت الدخان والغبار، وحاجة المتمردين لمزيد من التسليح والتمويل لتأجيج القتال من أجل طموحات لن تدرك، تنهب تلك الدول ما تنهب وتسلب ما تسلب تحت بصر المتمردين ورضاهم، أو وراء أبصارهم أحياناً!.
هذا النموذج، وإن كان في سبيله للانكسار في السودان، ولكنه حتماً لن يكون السودان محطته الأخيرة، بل سينتقل إلى منطقة أخرى في الإقليم، فهناك دول كثير في قوائم المرشحين!.