الخميس الماضي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن عقوبات فرضتها وزارة خزانتها على مدير عام منظومة الصناعات الدفاعية في الجيش السوداني الفريق أول ميرغني إدريس سليمان، بعد أن وصفته بأنه “مسؤول شراء الأسلحة” ووصفت المؤسسة التي يديرها بأنها “الذراع الرئيسية للجيش السودان في شراء الأسلحة”، وقالت إن ميرغني كان أساس صفقات الأسلحة التي غذت الحرب ووسعت نطاقها!!.. زعمت أنها مستمرة في محاسبة كل من يقف عائقاً أمام تحقيق السلام!!.
العقوبات الأمريكية جاءت بعد أقل من عشرة أيام على موافقة وزارة خارجيتها على بيع أسلحة وذخائر لدولة الإمارات العربية والمملكة العربية السعودية بقيمة 2.2 مليار دولار، بحسب ما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)!!.. ووفقاً لموقع وكالة التعاون الأمني والدفاعي الأمريكي، فقد وافقت الخارجية الأمريكية على بيع ذخائر بقيمة 1.1 مليار دولار: تشمل 259 نظاماً لإطلاق صواريخ متعددة (GMLRS)، و1554 وحدة صواريخ (M31A1)، و203 نظاماً للصواريخ التكتيكية للجيش (ATACMS).
والتناقض الأساسي في السياسة الأمريكية تجاه السودان، أنها تقوم بمحاسبة رجل يمارس مهامه الطبيعية وفقاً لوصف وظيفته، كمدير لمؤسسة رسمية تتبع لجيش وطني لدولة عضو في الأمم المتحدة، من حقها الطبيعي تسليح هذا الجيش لقيام بمهامه في الدفاع عن سيادة الدولة وأمنها وأمن شعبها، وهذا الوصف ما زال قائماً لم يغيره شيء، فحين تتعامل معه واشنطن أسوة برجل مليشيا يشن حرباً تمرد على جيش وطني، ويرتكب جرائم حرب أدانتها كل الدنيا، وتدعي مع ذلك بأنها تحاسب كل يقف عائقاً أمام السلام..فكيف يمكن قراءة هذا السلوك.
والتناقض الأساسي، هو أن تقوم واشنطن بتجريم عمل معتاد ضمن المهام الطبيعية لمسؤول في جيش وطني في حالة دفاع شرعي عن بلاده ضد تمرد غاشم يستعين بمليشيا غزاة قادمين من أصقاع الأرض، وتزعم أن ذلك العمل يُسهم في “تغذية الحرب وتوسيع نطاقها” في حين أنها لا تتورع عن بيع السلاح الأكثر تطوراً لدولة ثبت بالأدلة القاطعة والبينات المعروضة أمام مجلس الأمن الدولي تورطها في دعم التمرد وتغذية الحرب على دولة أخرى تشاركها عضوية الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي، والجامعة العربية!..
واشنطن تبيع السلاح للإمارات، بمليارات الدولارات، وهي تعلم تماماً كيف يسهم هذا السلاح في قتل آلاف المدنيين في السودان، وتشريد الملايين منهم!!..كما تعلم كيف ينصب هذا السلاح كالمطر على رؤوس السودانيين الذين تدعي واشنطن أنها تعمل على إزالة العوائق التي تقف أمام تحقيق السلام لهم!!.
وتظن واشنطن، أنها تقنع الدنيا، بأخلاقية موقفها، حين توقع عقوبات مماثلة على قائد التمرد، وعلى شقيقه القوني المسؤول عن شراء الأسلحة لصالح مليشيا أخيه!!..والحقيقة أن واشنطن تعمل بكل جد على تحجيم قدرة الجيش السوداني على صد العدوان على بلاده، ذلك العدوان الذي تساهم فيه واشنطن من خلال صفقات الأسلحة التي تقدمها لدويلة الشر وهي تعلم تماماً إلى أين سيمضي ذلك السلاح، لأنها وباعترافها، وفقاً نشرة وكالة التعاون الأمني والدفاعي الأمريكي، فإن “هذه الصفقات ستدعم أهداف السياسة الخارجية والأمن القومي للولايات المتحدة من خلال مساعدة أمن شركاء إقليميين مهمين، لتحقيق الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي في الشرق الأوسط”!!.. وماذا تصنع هذه الدولة (الشريك الأمني للولايات المتحدة) لتحقيق الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي في الشرق الأوسط؟!..ماذا تصنع سوى تأجيج الصراعات داخل الدول، ودعم القادة المتمردين ضد الجيوش الوطنية والحكومات الشرعية؟!.. ماذا تفعل سوى محاولة شراء ولاء أنظمة الحكم في دول الجوار؟! وسوى العمل نهب ثروات دول أخرى؟!.
وفي هذا السياق ووفقاً للمعطيات الأخرى، يمكننا فهم كيف تحقق واشنطن أهداف أمنها القومي من خلال صفقات السلاح لدولة مثل الإمارات، على الأقل من الجانب الذي يلي بلادنا.. يمكننا قراءة ذلك مع التفاصيل التي ساقتها واشنطن في صحيفة اتهام ميرغني، حيث قالت إنه كان الأساس في صفقات الأسلحة التي غذت الحرب تضمنت شراء الطائرات المسيرة من إيران وروسيا، وتضمنت تبادل الأسلحة مع روسيا مقابل استخدام الميناء!!..إذن فهذا هو!!..دخول إيران وروسيا في معادلة الحرب السودانية، هذا هو الذي يجعل شعر عجائز الإدارة الأمريكية يقف في رؤوسهم!!.. وتقول واشنطن “إن القوات المسلحة السودانية أعطت الأولوية لشراء الأسلحة بدلاً من الاستجابة لدعوات السلام”.. لقد كان دخول روسيا وإيران في المعادلة مربكاً للسياسة الأمريكية، التي لم تكن منشغلة كثيراً بتوقف الحرب، وكانت جهودها الدبلوماسية، بما في ذلك منبر جدة، تركز على هدنة إنسانية وفتح ممرات آمنة لوصول الإغاثة..
ولكن ظهور روسيا، جعلها تهرع إلى محاولة إيقاف الحرب بطريقة تناسبها، فسعت بكل ما أوتيت من قوة إلى استحداث منبر جديد للتفاوض في جنيف.. وحاولت أنجاحه وتمرير مخرجاته بشتى السبل، حتى لو كان ذلك رغماً عن أنف الحكومة السودانية.. ولما فشلت مساعيها في جنيف، حاولت مع الدول الإفريقية، لتحريك خيارات أخرى، مثل التدخل العسكري والدفع بقوات إفريقية، ولكن هذا المسعى نفسه يبدو أنه فشل، بعد أن حفيت فيه أقدام المبعوث توم بيريللو، دون أن يجد الاستجابة المرجوة من الدول الإفريقية المؤثرة..
واشنطن، حتى الآن، لم تعلن عن موقف أخلاقي مقنع ومتسق مع ما تزعمه من مبادئ حيال ما تمارسه مليشيا الدعم السريع من إرهاب وجرائم مروعة بحق المواطنين العزل، مثلما يحدث في ولاية الجزيرة هذه الأيام!!.. لماذا لا تريد واشنطن أن تصنف ما يجري على أنه إرهاب؟!.. مع أنها تصنف المقاومة الشرعية في فلسطين وغيرها على أنها إرهاب وتسعى لقمعه؟!..لماذا لا تطبق المبدأ الذي تردده في كل مرة على العالم “أمريكا لا تتفاوض مع الإرهابيين”؟!..فلماذا تريد إذن من السودان أن يتفاوض مع الإرهابيين؟!..ولماذا تصف موقف جيشه الوطني، الذي يقوم بمهامه في الدفاع عن أرضه ومواطنيه ضد إرهاب الدعم السريع، بأنه سلوك مغذي للحرب وموسعاً لنطاقها؟!..
الجواب هو أن أمريكا شريك في الحرب على السودان، عبر صفقات الأسلحة التي تمررها لوكيلتها الإمارات التي ستدفع بها حتماً للمليشيا!!..فهي إذًا تبيع لها الأسلحة التي تغذي بها قتل المدنيين وتشريدهم من مدنهم وقراهم، وتدمير البُنى التحتية لمؤسسات الدولة السودانية!!..
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس