*بعد خطاب حميدتي.. ماذا بقي لتقدم مما تتشدق به؟!*
*أحمد غباشي*
أكبر عملية استخفاف واستغفال وركمجة (ركوب موجة) في تاريخ السودان الحديث، وأحسب القديم كذلك، حدثت في عشيَّات ثورة ديسمبر، حين صعدت زُمر من سواقط أحزاب اليمين واليسار، والفشلة من علمانيي المهاجر، على ظهر تلك الغضبة الثورية السودانية، وتسلقوا أكتاف البسطاء من الشباب الثائرين بعد أن كاد ثمرهم يبلغ النضج، فإذا هم قد استظهروا عليهم بلفيف كثيف من شلل الضائعين وأتباع الهوى من متسكعة الشوارع الخلفية، فشحنوا بهم السفح والجبل، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وملؤوا الدنيا شعارات وضجيجا، وأثاروا من سحب الغبار ما هو جدير بحجب الرؤية عن كل ذي بصر.
هذا ما كان يجري في ليالي الثورة وأماسيها، داس الهابطون من غياهب الظلمات على أجساد الشباب الذي كابدوا شديدها عالجوا حديدها واكتووا بلهيبها، فالزموهم الرغام، وحازوا بدلاً عنهم مكان الصدارة، ونصبوا أنفسهم أبطالاً وصانعي ثورات، وليس لهم من الثورة حظ إلا الظهور في الأسافير وشاشات الفضائيات، وليس لهم من البطولة جهد سوى الكلمات التي كانوا يصرخون بها وسط مخيمات الاعتصام في القيادة العامة، ذلك الذي جبوا إليه مفاسد الأرض وملذاتها، يستهوون بها قلوب اليافعين وعقولهم، ليسوِّقوا أنفسهم أصحاب حق وحيد في حكم البلاد والتقرير في أمورها، وما على الناس إلا أن يبصموا بالعشرة على تزكية من زكوا وإسقاط من أسقطوا وتخوين من خونوا!!.. فعجزت حتى الأحزاب الكبيرة وأصحاب التجارب في شؤون السياسة عن الوقوف في وجه موجتهم أو التصدي لزخمهم.
بتلك الألاعيب وأحابيل المشعوذين تمكنت قحت وشراذمها من السيطرة على مقاليد الأمور، وإقصاء كل من خالفهم وتخوينه، فقد سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم!.. ولكن، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين، فقد سجلوا في دفاتر التاريخ أكبر فشل عرفته الدول منذ اليوم الذي عرفت فيه الدنيا مسمى دول!..
ثم لما بدا للناس فشلهم، وفاح عطنهم، وسقطت تلك الهالة الكذوب، عرف الناس مقدار الخديعة التي وقعت عليهم، وأدركوا مدى الاحتيال، حتى إذا ركلهم حلفاؤهم من العسكر، لم يجدوا باكيا يبكي عليهم، فلم يبق أمامهم إلا أن يهرعوا إلى أبواب السفارات التي جاءت بهم من أزقة الضياع، وإلى الأمم المتحدة التي كانوا يرتزقون على أبوابها لقاء الأدوار التي يؤدونها في مخطط هدم البناء العقائدي والاجتماعي للمجتمع السوداني.. وكان ما يسمى بالاتفاق الإطاري هو آخر أوراق ذلك المخطط، ومن بعده الطوفان.. هكذا كان قادة قحت يطرحون المعادلة!!.. الإطاري أو الحرب!!. فهم أول من روَّج لفرضية الحرب في سياق السياسة!.
لقد فضح حميدتي، في تسجيله الأخير، الأمر بجلاء، نزع عن حلفائه كل ورقة توت كانوا يسترون بها سوءاتهم، حين وصفهم بأنهم الذين أشعلوا الحرب بإصرارهم على الاتفاق الإطاري!!..
لقد أحرق حميدتي كل مراكب قحت معه، حين رماهم، وهو صاحب حربهم، بالتهمة نفسها التي كانوا يرمون بها الإسلاميين!!.. إشعال الحرب!!.. فبأي وجه يطلَّون على أهل السودان الذي أحرقوه لقاء أطماع رخيصة وشفاء أحقاد وضيعة.
وقحت الأمس أو تقدم اليوم، التي كان رجالها يلبسون لباس المشفقين على السودان وأهله، وينادون بصيحتهم المأثورة “لا للحرب” ويكيلون التهم لمن يسمونهم دعاة الحرب “البلابسة”، انكشف اليوم للناس أن ذلك اللباس الرقيع ما هو إلا جلود الضأن على قلوب السباع..فقد عرف السودانيون من الذي كان يقف خلف الحرب، ومن الذي يساند احتلال بيوتهم وتشريدهم منها، ونهب أموالهم ومتاعهم.. فما الذي بقي لهم مما يتشدقون به؟!.
التجربة القاسية التي يمرَّ بها السودانيون اليوم، ستجعل تقييمهم للأشياء والأشخاص مختلفا عمَّا كان عليه الأمر قبل الحرب، فلا أحد يعطى تزكية على صفحة بيضاء بسبب انتماء، سياسيًا كان أم عشائريًا أم حزبيًا!..كما لن يُدان أحد على الدوام بسبب الكراهية الحزبية والدعاية المضادة، فالرؤى الثاقبة التي تعززها المواقف الصادقة الجادَّة هي معيار الحكم على الناس.. كما لن يقبل السودانيون أن يتسور عليهم حائط الحكم أحد من عاطلي الفكر والخلق عبر المحاصصات السياسية والتسويات السلطوية، على نحو ما كان يجري في السابق، وعلى نحو ما جاءت قحت نفسها.