قبل أكثر من 15 عاماً كتبت مقالاً تحت هذا العنوان في إحدى الصحف السودانية..
واليوم استدعت ذاكرتي ذلك المقال، حين سمعت تعقيب الرئيس البرهان على البيان الذي أصدره الرئيس الأمريكي جون بايدن بخصوص الوضع في السودان ودعوته الأطراف السودانية المتحاربة إلى سحب جيوشهما وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية واستئناف المفاوضات!!..
عبارة واحدة بالذات استوقفتني في تعقيب البرهان..وهي تلك التي قال البرهان فيها بالنص: “اطلعنا على البيان الذي أصدره الرئيس الأمريكي بشأن الوضع في السودان.. وبالنيابة عن حكومة السودان، أرحب بتعبير الرئيس بايدن عن قلقه”!.
“الترحيب بإبداء القلق”أمر مدهش في العرف الدبلوماسي.. ولهذا جال في خلدي أنها نوع من السخرية الدبلوماسية الناعمة واللاذعة في نفس الوقت، والذي يتابع الرجل يجد أنه لا يفتقر إلى حس الدعابة!..وبالأخذ في الاعتبار المواقف الأخيرة للقيادة السودانية من المبادرة الأمريكية لاسئناف المفاوضات في جنيف، والحزم الذي تعاملت الحكومة به مع دعوات التفاوض.. يجعلني أكاد أجزم بأن الفريق البرهان، الذي خبر الطريقة الأمريكية في التعامل مع السودان، أراد أن يقول لبايدن “إذا كان كل ما يجري في السودان من فظائع، ترتكبها مليشيا الدعم السريع، وكل المعاناة التي يعيشها السودانيون خلال أكثر من 17 شهراً من الحرب تدعو فقط إلى القلق.. فنحن نرحب بهذا القلق الأمريكي النبيل”!!.
وبطريقة لا تقل دبلوماسية أيضاً أعاد البرهان، في تعقيبه، على مسامع العجوز بايدن بعضاً من شواهد الجرائم والخراب والدمار الذي ألحقته المليشيا بالسودان، شعباً وبنية تحتية وثقافة وتاريخاً..ورد في الوقت نفسه على الدعوة الأمريكية )السامية( لوقف القتال، بقوله: “نحن على استعداد للعمل مع جميع الشركاء الدوليين سعياً للتوصل إلى حل سلمي يخفف معاناة شعبنا..إلى آخر الكلام”!!.. وعبارة “جميع الشركاء الدوليين” فيها دلالات لا تخفى على أحد، في ظل التقارب السوداني مع الصين وروسيا!!.
وأردت باستدعاء المقال السابق أن أشير إلى أن الإدارة الأمريكية ظلت دائماً، وبمختلف حكوماتها، تغرس الخنجر في خاصرة السودان، ثم تمسح ظهره بابتسامة باهتة وفاترة، وتصريحات سرابية يحسبها الظمآن ماءً!..بالذات في عهود حكم الديمقراطيين، ففي ذلك الوقت، قبل أكثر من 15 عاماً، أطلق الرئيس باراك أوباما تصريحات حول “اتخاذ الإدارة الأمريكية سياسة جديدة في التعامل مع السودان”..وانتظر الناس ليروا، مرة واحدة، تحقق الوعد “الأوبامي” على نحو يبشر بطروء تغيير إيجابي على العنجهية الأمريكية..سوداء كانت أم بيضاء!!..ثم اكتشفوا أن الابتسامة الساحرة التي بعث بها أوباما، في ذلك الوقت، مع مبعوثه اللبق الوسيم، الكولونيل المتقاعد “غرايشن”..لا تختلف كثيراً عن تلك ارتسمت على أوراق البوستر الانتخابي التي تحمل صور الرئيس المرح أوباما!!..
والبرهان نفسه ظن، إبان الفترة الانتقالية، أنه حليف أليف وأثير للإدارة الأمريكية، وسارع باندفاع للاستجابة لكل مطلوبات إرادتها (السامية)، بما فيها التطبيع مع دولة دولة العدو الصهيوني، والدخول فيما يسمى بـــ (اتفاقيات أبناء إبراهيم)، وعبثيات أخرى لم ينسها الشعب السوداني، ولكنه غض الطرف عنها احتراماً لمقتضيات الحرب والنزال.. ثم اكتشف البرهان، بعد رحلة طويلة المخاتلة والمراوغة والتصريحات الكذوب، أنه لا مكان للحب في هذه العلاقة غير المتكافئة.. وأن ما تريده أمريكا من السودان وحكامه، هو ما تحت الأرض لا ما فوقها!!..فما فوقها لا يصلح لأن يكون احتياطياً استراتيجياً لأمريكا، كالذي تحتها.
ولذلك يخطئ من يظن أن القيم الأمريكية تفتش عن سلام ومصلحة لشعب يعاني المجازر الأعنف من نوعها في التاريخ القريب، يقوم بها مرتزقة دوليون قادمون من أعماق عوالم الأساطير الهمجية، ومع ذلك تستكثر أن تصنف تلك الأفعال في خانة (الإرهاب) الذي ترمي به من تشاء، ولو في شطر كلمة!.
وأمريكا، التي كانت تذرف الدمع على الديمقراطية الضائعة في السودان وتقيم الأرض ولا تقعدها من أجل نصب عملائها في سدة الحكم، بحجة تسليم الحكم للمدنيين تحقيق إرادة الشعب السوداني، لم تستح أن تسلب السودان الفقير البائس الذي أرهقته عقوباتها الاقتصادية على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، لم تستح ولم تستنكف أن تسلبه نصف مليار من الدولارات، هكذا قرصنة واحتيالاً، بواسطة رجلها المطيع حمدوك، تسلية وتعويضاً لضحايا إرهاب لا يد للبلد المنكوب فيه!!..ثم تصنع منه، عبر وكلائها الإقليميين، ضحية لنوع جديد ومختلف من الإرهاب القاري.
وأمريكا ظلت، لسنوات عديدة، تستثمر في أزمات السودانيين وأوجاعهم، منذ حرب الجنوب، إلى مأساة دارفور، عبر آلة دعايتها الضخمة..بل مجتمع الدعاية الكبير، الذي يحوي في بطنه كل ما يمكنك تصوره؛ ابتداءاً من اللوبيهات المتنفذة في أجهزة اتخاذ القرار في تلك الدولة الأخطبوط، مروراً بمجموعات الضغط والمنظمات الصهيوصليبية، وتجار الكوارث من منتسبي جماعات العمل الإنساني، ونجوم السينما، وحتى طلبة الجامعات..وفتيان الشوارع الخلفية!!.
والسودان كان هدفاً لتلك الدعاية طوال خمسة وثلاثين عاماً.. وكل فرد من أفراد مجتمع الدعاية ذلك يجني الفوائد بطريقته..يزداد نجوم السينما لمعاناً، وهم يضيفون إلى أصباغ مكياجهم صبغاً جديداً اسمه “مساعدة ضحايا الإبادة الجماعية في دارفور”!!..ويَنْصَبُّ المال كالمطر في جيوب تجار الكوارث، وأباطرة العمل الإنساني باسم القرى المحروقة ومئات الآلاف من المشردين في تلك الأرض البعيدة!!..وتكتسب اللوبيهات ومجموعات الضعط ومنظمات التحالف الصهيوصليبي، قوة إلى قوتها، وتفتح أبواباً ومسارات لتمدد المخططات الصهيونية على القارة السمراء!!.
والآن يتحدثون عن مذبحة الجنينة، والمذابح التي تنتظر الفاشر إن هي سقطت بقبضة الدعم السريع، وكأن القتل لم يجر إلا فيهما، وهي بالطبع مناطق عزيزة من السودان، ولكن اختزال أزمة بلد بأكمله في مدينتين وتحريك ضمير العالم نحوهما بمعزل عن بقية الوطن الجريح هو جزء من تلك الدعاية السوداء.
إن قلق (بايدن) لا يختلف كثيراً عن تلك الحزمة من الوجوه البلاستيكية الباسمة، التي كانت تقدمها الدبلوماسية الأمريكية للسودان، ولكنه يمكن أن يتحول إلى قلق حقيقي، حين يتجرأ السودان على فتح الباب لخصوم واشنطن التقليديين.. فهل أدرك البرهان موضع (الرخ) الرابح في رقعة شطرنج السياسة الدولية، وهو يريد أن يلاعب الكبار بتلك الأدوات الدبلوماسية الناعمة، وبأسلحة المصالح؟..أم أن الأمر كله لا يخرج عن كونه مجاملات دبلوماسية، وليست بذاك العمق، على نحو يسطر كتبة الأخبار؟!!.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس