في ١٣ يوليو ٢٠٢٣ بعد ثلاثة أشهر من اندلاع تمرد الدعم السريع، انعقدت في العاصمة المصرية القاهرة قمة دول الجوار السوداني بدعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وحضرتها الدول المرتبطة بحدود مع السودان، ومن أهم ما تم الاتفاق عليه في لقاء القاهرة، هو اعتبار أن ما يجري بالسودان شأن داخلي، وضرورة الالتزام دول الجوار بعدم التدخل بمساندة أي طرف من الأطراف ضد الآخر، والانصراف لبذل الجهود من أجل التوصل إلى حل يوقف الحرب في السودان.
ثم انعقد لقاء ثاني في العاصمة التشادية انجمينا للدفع بمبادرة دول الجوار إلى الأمام والقيام بخطوات في الوساطة، ورغم أن تلك الجهود لم تُفض إلى نتائج ملموسة، ولكنها وضعت الحاضرين أمام مسؤوليتهم الأخلاقية بعدم المساهمة في تأجيج الصراع.
ولكن تداعيات الصراع أثبتت أن القليل جداً من تلك الدول التي شاركت في اجتماعات القاهرة وانجمينا، أوفت بالتزاماتها الأخلاقية، الأكثرون غرسوا أقدامهم في مستنقع الحرب ضد السودان!!. وفيما عدا إريتريا ومصر، فإن جميع دول الجوار غمست أيديها بشكل أو آخر في صحن الدم السوداني، تحقيقاً لمصالح وأطماع اقتصادية وتنفيذاً لتحالفات إقليمية..بدءًا بإثيوبيا، ثم ليبيا الحفترية، ثم تشاد وإفريقيا الوسطى وانتهاءً بجنوب السودان، كل تلك الدول شاركت، بمستويات مختلفة في تأجيج الحريق السوداني.
وفي هذا التقرير نتعرض لتشاد نموذجاً لهذا التكالب بوصفها واحدة من أدوات تحقيق المصالح الإقليمية..
*حرب السودان وتوتر العلاقات بين البلدين:*
بعد مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي إتنو في أبريل 2021، خلال مواجهات مع حركة فاكت المتمردة شمال البلاد، قاد ابنه محمد إدريس ديبي المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى حكم البلاد، وبدأ عهده بعلاقات جوار طيبة مع السودان استمرت حتى الأيام الأولى من اندلاع الحرب في الخرطوم، وقد رفضت حكومة انجمينا التورط في الصراع داخل السودان، بل لم تكن مستريحة للتمدد الإقليمي لقوات الدعم السريع، خاصة مع وجود تحذيرات أمريكية سابقة من احتمال وجود تنسيق مشترك بين جماعة فاغنر الروسية وحميدتي والجنرال الليبي خليفة حفتر لإحداث تغييرات في أنظمة الحكم في بعض دول المنطقة، ومن بينها تشاد.
ولكن ما لبثت أن دارت تلك العلاقة الطيبة مع دوران بوصلة العلاقات مع دولة الإمارات، ومضت تغرس أقدامها شيئاً فشيئاً في الوحل، وتحولت لصالح دعم المليشيا وتوفير أكبر قاعدة إمداد لها، ومركز من مراكز إخلاء الجنود، في منطقة أم جرس شرقي تشاد.
في نوفمبر ٢٠٢٣ أطلق الفريق أول ياسر العطا عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام للجيش اتهاماً مباشراً للحكومة التشادية بتزويد مليشيا الدعم السريع المتمردة بالأسلحة والذخيرة عبر مطاراتها، وسرعان ما انزلق الأمر إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين، حيث طالبت انجمينا باعتذار رسمي عن التصريحات، واتبعت ذلك بإبلاغ 4 من الدبلوماسيين السودانيين أنهم غير مرغوب فيهم، وأمرتهم بمغادرة أراضيها خلال 72 ساعة، بسبب ما اعتبرتها تصريحات خطيرة ولا أساس لها، وأمراً عدائياً غير مقبول.
وهو ما رفضته الحكومة السودانية وأكدت، على لسان وزير الخارجية المكلف على الصادق، تسليم تشاد صوراً وأدلة، التقطت خلال تصوير جوي وعبر الأقمار الاصطناعية، تُثبت ما ذهب إليه عضو مجلس السيادة، مشيراَ أن السودان لم يكن هو المبادر بالتصعيد الدبلوماسي وإبعاد الدبلوماسيين.
ولكن الأزمة الدبلوماسية لم تصل بين البلدين إلى مرحلة القطيعة الكاملة، بل ما زالت سفارة السودان بانجمينا تحتفظ بتمثيل أساسي، بوجود السفير والسكرتير الثالث.
*تشاد ما زالت تعتبر حميدتي نائباً للبرهان:*
في نهاية أبريل الماضي نفى وزير خارجية تشاد السابق محمد صالح النضيف، في تصريحات لقناة الجزيرة، تورط بلاده في تقديم أي دعم لقوات الدعم السريع، وقال “نتحدى أي مسؤول سوداني يثبت تورطنا في الاقتتال بين الجيش والدعم السريع”.
وأبدى النضيف أسفه على ما وصفها بالتهم “التي تأتي من دون دلائل” والتي تسهم في تشويه صورة تشاد، متهماً جهات سودانية، لم يسمها، بالعمل على دعم حركات مسلحة تشادية في بورتسودان، والعمل على تغيير النظام في تشاد، ولافتاً إلى أن تشاد هي الدولة الوحيدة التي استقبلت نحو مليون لاجئ سوداني، وأن ذلك أثَّر على سير الحياة في تشاد من استقرار المدارس والمستشفيات وغيرها من المؤسسات. وقال: “كنا ننتظر الشكر لكن الآن نجد اتهامات”. وأعرب عن استعداد بلاده القوي لاستضافة مفاوضات مباشرة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.
لكن وزير خارجية تشاد أقر، خلال حديثه، بنقطة خطيرة وهي أن حكومته ما زالت تعتبر حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة السوداني، رغم صدور قرار سيادي بإقالته من منصبه عقب تمرده على الدولة!!..فقد أكد للنضيف: أن “الخلاف الداخلي لم يؤثر في الاعتراف بمنصب (البرهان) كرئيس لمجلس السيادة السوداني، و(حميدتي) كنائب له”، وأضاف: “حتى الآن علاقاتنا مبنية على هذا وما حدث بعد الحرب ليس لديه أي تقييم”.
ولا يخفى ما في مثل هذا الحديث من انتقاص للسيادة الوطنية ولأهلية الحكومة السودانية لاتخاذ قرارات بهذا المستوى، بل يعطي المبرر الأخلاقي لداعمي المليشيا، لأنه يعتبر قائدها أحد شركاء السلطة في السودان!.
وهو ما أشارت إليه الخارجية السودانية، في ردها على تصريحات النضيف، حيث اعتبرت ذلك الكلام خرقاً للأعراف الدولية الراشدة وتدخلا سافراً في شؤون البلاد الداخلية، فأوضحت في بيان باسم الوزير المكلف حسين عوض أن” بعض ما ورد في حديث الوزير التشادي نفسه يؤكد تدخل بلاده في الشؤون الداخلية للسودان فقد ذكر أنهم لا يزالون يعتبرون محمد حمدان دقلو نائبا لرئيس مجلس السيادة، مع أنه أُقيل من ذلك المنصب عقب تمرده على الدولة وتوجيه أسلحته للمواطنين العزل”. وتابع “وحديث المسؤول التشادي المشار إليه فضلا عن كونه تدخلا سافراً في شؤون السودان وفيما لا يعنيه، وخروجاً على الأعراف الدولية الراشدة، هو استخفاف بضحايا الإبادة الجماعية التي ارتكبتها المليشيا المتمردة في الجنينة على بعد أميال قليلة من الحدود مع تشاد، وباقي جرائمها المنكرة في مختلف انحاء البلاد”.
*أدلة وأرقام:*
كشفت الخارجية السودانية عن معلومات وأدلة تثبت تورط تشاد في توفير الدعم والإمداد للمليشيا المتمردة، ووصف وزير الخارجية المكلف السفير حسين عوض، في تعليقه على حديث نظيره التشادي، الدعم التشادي للمليشيا الإرهابية بأنه أوضح من شمس النهار، وقال إنه يشمل تخصيص مطاري أم جرس وأبشي لاستقبال الرحلات الجوية التي تنقل الأسلحة والعتاد العسكري للمليشيا الإرهابية من دولة الإمارات، موضحاً أن هذه الرحلات بلغت حتى الآن أكثر من ٤٠٠ رحلة، رصدتها الأجهزة الوطنية والدولية المتخصصة، بتفاصيل الطائرات الناقلة والمسارات التي اتخذتها، وتواريخ وصولها وتفريغها، معززة بصور الأقمار الصناعية.
وأشار إلى أن فريق الخبراء المستقلين المكلف من مجلس الأمن بمتابعة القرار ١٥٩١، وثق ذلك في تقريره الأخير أمام المجلس، ووضح طرق وصول هذه الأسلحة والمعدات من تشاد للمليشيا.
كما كشف الوزير السوداني عن أدلة أخرى على تورط تشاد، من قبيل القوافل التي تنقل الأسلحة من تشاد إلى الأراضي السودانية، التي تعاملت القوات المسلحة السودانية مع بعضها، وأشار إلى مركبات عسكرية وصلت لتشاد عن طريق ميناء دوالا الكاميروني وجهتها النهائية للمليشيا الإرهابية عبر الأراضي التشادية، رصدتها الأجهزة المختصة.
أشار بيان وزير الخارجية السوداني إلى دور تشاد فيما وصفه بترتيب وتنسيق مشاركة المرتزقة الشاديين ومن الدول التي لا يمكن الوصول منها إلى السودان إلا عبر تشاد، مؤكدا أن أعداداً كبيرة من هؤلاء المرتزقة لقوا حتفهم في السودان وبعضهم في قبضة القوات المسلحة السودانية.
بيان وزير الخارجية السوداني يطابق في بعض جوانبه تقرير الخبراء المستقلين الذين كلفهم مجلس الأمن، بالإضافة إلى تقارير صحافية دولية أثبتت هبوط طائرات إماراتية محملة بالأسلحة والعتاد الحربي في مطار أم جرس بشرق تشاد تحت غطاء المساعدات الإنسانية منها تقارير صحف عالمية مثل غارديان البريطانية ووول ستريت جورنال وفورين بوليسي الأمريكيتين.
*الإمارات تختطف القرار التشادي:*
يرى كثير من المراقبين للشأن التشادي أن الرئيس محمد ديبي لم يكن في أول الأمر راغبا بالتورط في حرب السودان، على الرغم من أن بعض القياديين في نظام حكمه كانوا منذ فترة مرتبطين بقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو ومشروعاته لإنشاء دولة عشائرية في المنطقة، ولكن مواقف محمد ديبي تغيَّرت تحت ضغط المصالح والإغراءات الاقتصادية التي مارستها عليه الإمارات.
ففي يونيو 2023 التقى محمد ديبي بالشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، عندما استقبله في قصر البحر، وبحثا مختلف جوانب العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل تنميتها، والارتقاء بها لمصلحة شعبيهما، إضافة إلى عدد من القضايا الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك، بحسب وكالة الأنباء الإماراتية.
ولم تكن الإمارات قبل اندلاع الحرب في السودان تولي علاقاتها مع تشاد ذلك الاهتمام البالغ، ولكن عقب تلك الزيارة، التي يبدو أن أطرافاً عدة ساهمت في ترتيبها، بدأ فصل جديد من الصداقة مدفوعة القيمة، حيث وقع فيها الرئيس محمد ديبي اتفاقية تعاون عسكري مع الإمارات، واتفاقية قرض بين جمهورية تشاد وصندوق أبوظبي للتنمية، ومذكرة تفاهم في مجال الطاقة، ومذكرة تفاهم في مجال التعدين، وانفتحت الإمارات بعدها بأموالها على تشاد.
ففي يوليو ٢٠٢٣م، شيّدت الإمارات المستشفى الميداني في مدينة أم جرس، ثم بعد شهر قدّمت دعماً عسكرياً للجيش التشادي، وفقا لاتفاقية التعاون العسكري آنفة الذكر، كما قدمّت قرضا بقيمة 1.5 مليار دولار.
وبعد ذلك أصبح مطار مدينة أم جرس يشهد نشاطا محموما، حيث أكد عاملون بالمطار، لموقع، رصيف٢٢، أن طائرات الشحن الإماراتية تهبط بشكل شبه يومي، رغم بُعد المدينة عن مناطق وجود اللاجئين السودانيين، ورغم كونها لا تُعدّ مكان عبور لهم، بحسب تقرير نشرته “BBC” عن اللاجئين السودانيين في تشاد. الأمر الذي دفع سكان من مدينة أم جرس إلى تنظيم وقفةً احتجاجية للتنديد بالعمليات التي وصفوها بالمشبوهة داخل مطار المدينة، واتّهم المحتجون الإمارات بالعمل على تغذية الصراع في السودان، باستغلال مطار مدينتهم في نقل الأسلحة والأموال والذخيرة إلى قوات الدعم السريع، تحت غطاء الدور الإنساني، وذكر المحتجون أنّ مدينتهم لا تُعدّ محطة لجوء للسودانيين، الذين يتواجدون في منطقة “أدري” الحدودية، بل “أبشي” هي أقرب المدن إليها لا أم جرس.
ويرفض كثير من الساسة التشاديين تورط دولتهم في تنفيذ مخططات الإمارات في حرب السودان، ويرون أن العلاقات مع تلك الدولة ضارة بلادهم.
وفي هذا السياق كتب رئيس الحزب الاشتراكي المعارض، يحيى ديلو جرو، في صفحته على فيسبوك : “العلاقات بين المجلس العسكري والإمارات علاقات سامّة، وتتطلب قدراً من الشفافية حتى يعرف الشعب التشادي السبب الحقيقي لوجود هذه الدولة في تشاد. ويجب ألَّا تكون التنمية ذريعةً للتمويل والاتّجار الغامضَين. نحن لا نريد ذلك؛ لأننا نعرف التأثيرات المدمرة لهذا التعاون الغامض”.
*فتور العلاقة ومراجعة الموقف:*
خلال الفترة الأخيرة حدثت تطورات جديدة على رصيف العلاقة بين أبو ظبي وانجمينا، حيث ذهب الرئيس محمد ديبي إلى أبو ظبي مرتين متتاليتين من أجل بحث تقوية العلاقات مع أبو ظبي، ولكنه، حسب قول مراقبين تشاديين، لم يتم استقباله بالشكل اللائق، حيث احتجب رئيس الدولة محمد بن زايد عن مقابلته خلال الزيارتين.. الأمر الذي قابلته انجمينا بالاتجاه نحو قطر، الدولة التي تعتبرها الإمارات منافستها الأولى وعدوتها اللدودة!.
كما قامت ببعض الإجراءات فُسرت بأنها إعادة ترتيب لأوراقها الداخلية فيما يخص الملفات التي تربطها بالإمارات، ومن أهمها الملف السوداني.
ويرى المحلل السياسي التشادي، البشير حسن صالح، أن أسباب التوتر بين الإمارات وتشاد، ترجع إلى أنه “ منذ البداية لم تكن هناك علاقة فعلية بين البلدين، وإنما اتفاق لغرض معيّن مقابل الأرض أو النقل عبر “المطارات” (مطاري أبشي وأم جرس الدولي)، لتوفير الدعم بالعتاد الحربي لقوات الدعم السريع.. ويتابع في تصريح لـ (شبكة مواطن الإعلامية) التي مقرها لندن، : “من قبل كانت الإمارات تدعم “ديبي الابن”، لأن قوات الدعم السريع كانت بحاجة إلى مطاري أم جرس وأبشي، أما الآن فليسوا بحاجة إلى المطارين، في إشارة إلى سيطرة الدعم السريع على مدن حيوية في دارفور تحتوى على مطارات مثل “الجنينة ونيالا والضعين”.
ويؤكد صالح أن الإماراتيين في الأصل لم يكونوا بحاجة لتوطيد علاقات مع تشاد، إنما كان دعمه بقليل من السيارات العسكرية؛ “المدرعات” والمشافي الميدانية فقط لتغطية الإمدادات التي تصل إلى مطار أم جرس.
وعقب فوز محمد ديبي في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في مايو الماضي، أجرى تغييراً في تشكيله الحكومي، كان الأبرز فيه هو تعيين المتحدث باسم الحكومة عبد الرحمن غلام الله وزيرًا للخارجية خلفًا للوزير محمد النضيف؛ في خطوة يراها محللون تأتي ضمن مقاربة تشادية للحرب في السودان؛ بالنظر إلى علاقات “النضيف” غير الجيدة مع الحكومة السودانية.. بينما خلفه (غلام الله) يتحدر من أصول سودانية، فوالده من قبيلة الجعليين، هاجر إلى تشاد في الأربعينات، ومعروف عن عبد الرحمن غلام الله ميله لدعم موقف الجيش السوداني.
ويفسِّر المحلل السياسي التشادي سعيد أبكر، هذه التغييرات على أنها تنم عن رغبة الرئيس محمد ديبي في تلطيف الأجواء مع السودان بعد أشهر طويلة من التوتر.
وترى الدكتورة أمينة العريمي، الباحثة الإماراتية في الشأن الإفريقي، في مقال لها، أن هناك حالة من الترقب للوقت الذي سيبدأ فيها الرئيس محمد ديبي تنفيذ وثبة الإقدام “المؤجلة”، للحفاظ على خط رجعة مع الخرطوم قبل فوات الأوان. وتشير الباحثة الإماراتية إلى وجود توافق بين الرئيس التشادي وشعبه على خطورة الدعم السريع على مستقبل الدولة التشادية والجوار الإقليمي.. وتوقعت العريمي أن يتم قريباً إعادة فتح ملف الطلب التشادي للقاء القيادة السودانية، وتقول: “وهي بلا شك فرصة الخرطوم الذهبية لتولي الدفة”.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس