سياسةمقالات

أحمد غباشي يكتب:

مواطنو قُرى الصالحة.. انتهاكات غير منظورة واتهامات ظالمة!

 

المواطن العابر من مناطق وجود الدعم السريع في العاصمة الخرطوم إلى مناطق سيطرة الجيش السوداني يمر بالعديد من نقاط التفتيش المشدد كإجراء روتيني اقتضته ضرورات التأمين، وتزداد هذه الإجراءات شدة وحزما إذا عُلم أن هذا المواطن قادم من أحدى قرى منطقة الصالحة بالريف الجنوبي لمدينة أم درمان، وهي من المناطق التي تشهد وجودا كثيفًا لمليشيا الدعم السريع المتمردة منذ الأيام الأولى للحرب..
يتعرض المواطن القادم من الصالحة لتفتيش دقيق واستجواب أحيانا، بسبب هذه الحيثية، خصوصا مع تكرار تسلل الخلايا النائمة التي تستخدمها المليشيا في إطلاق المسيرات والقصف العشوائي للمناطق السكنية.
ولكن اللافت للنظر أن ثمة اعتقاد أصبح منتشرا وسط كثير من الجنود بالقوات المسلحة، ودائما ما يصرحون به للمواطنين في نقاط التفتيش، وهو أن جميع من بقي بالصالحة هم مرتبطون بالمليشيا بشكل أو بآخر، وإلا لما بقوا كلَّ تلك المدة متعايشين مع المليشيا!!.
ساهم في انتشار هذا الانطباع بعض التقارير الصحفية والإعلامية التي نشرتها أقلام مأجورة مساندة للمليشيا عن تجاوب المواطنين في قرى الصالحة مع الدعم السريع وتعاونهم معه في لجان الخدمات وغيرها، وعن استقرار الحياة في المنطقة في ظل سيطرته، وغيرها من الأباطيل والترهات، ومن تلك التقارير تقرير ما يُسمى بلجنة أحياء صالحة المركزية الذي نشرته في فبراير الماضي عن مجمل الوضع في صالحة، وتم تناقله  على نطاق واسع في الوسائط الرقمية.. وفي حقيقة الأمر هي لجنة لا وجود لها على الأرض، وليس فيها تمثيل حقيقي لأحياء صالحة كما يوحي بذلك الاسم، بل هي مجرد تشكيل تمت فبركته من مجموعة من المتعاونين مع المليشيا ولا نشاط لها سوى تدبيج التقارير الإعلامية التي تزيِّف الحقائق في الوسائط الإعلامية وتغطي على جرائم المليشيا.

للحقيقة وجه آخر:
ولكن الوجه الكامل للحقيقة غير ذلك، فالانتهاكات اليومية التي ظل مواطن الصالحة يتعرض لها على يد المليشيا ومستنفريها الموسومين بـ(الجاهزية) لا تحصى ولا تعد، بدءًا بالقتل والتصفية الجسدية، والقصف العشوائي، وإطلاق الرصاص العشوائي، مروراً بالسطو المسلح على البيوت والمحلات التجارية، والضرب المبرِّح، وإطلاق الرصاص على الأرجل، والاعتقال بغير سبب لفترات مفتوحة وفي ظروف معيشية غاية في السوء،  وحالات الاختفاء القسري، وانتهاءً بالجبايات اليومية العالية المفروضة على الباعة في الأسواق وألعابرين من أصحاب البضائع، مع عدم توفير أدنى درجة من درجات الحماية، وفي هذا التقرير نحاول أن نلقى الضوء على بعض هذه الانتهاكات، لعلَّنا نساهم في تصحيح الصورة المغلوطة التي أدت إلى تلك الاتهامات الظالمة.

قصة الصالحة مع المليشيا:
فتح مواطنو الصالحة أعينهم صبيحة اندلاع الحرب فوجدوا أنفسهم، هكذا بغير مقدمات، منطقة تحت سيطرة قوات الدعم السريع المتمردة على الدولة السودانية، وذلك بحكم قربها من معسكرها الضخم الذي يقع جنوب صالحة..وبحكم سُكنى عدد من ضباط وجنود الدعم السريع، عندما كانت قوة نظامية، بمنطقة الصالحة..وعلى هذا الأساس بدأت تتدافع مجموعات من المستنفرين (الجاهزية) الوافدين من الولايات الأخرى في الغرب، لتستقر بقرى الصالحة..هذا بالإضافة إلى كثير من اللصوص الذين انضموا للدعم السريع و
ضُيِّق عليهم الخناق في مناطق أخرى مثل بعض أحياء الخرطوم، جاؤوا إلى الصالحة لأنها أكثر مناطق وجود المليشيا انفلاتا من ناحية التحكم والسيطرة والضبط والربط..
وفي الفترة الأخيرة، خاصة مع توالي انتصارات الجيش وتمدده في أغلب أحياء أمدرمان، تقهقرت أعداد كبيرة من فلول المليشيا المنهزمة إلى منطقة الصالحة.
أضف إلى ذلك أن بعض الفاسدين من السُرّاق ومدمني المخدرات ومروجيها من ساكني هذه القرى انضموا للمليشيا طلبًا للتسلح من أجل ممارسة أنشطتهم الإجرامية.
أما مواطن الصالحة المغلوب على أمره فقد وجد نفسه بين أمرين أحلاهما مُر؛ النزوح والتشرُّد وترك ممتلكاته نهبا للصوص لا يتركون فيها عصا حمار ولا نفّاخ نار.! أو البقاء والصبر في ظل هذه الظروف القاسية وتحمل الانتهاكات والأخطار وضيق المعيشة حتى لا يعيش حياة التشرد والفرار.

القصف العشوائي:

تكررت حوادث سقوط قذائف الهاون على الأحياء السكنية أكثر من مرة خالال عام من الحرب، وأزهق فيها عدد من الأرواح وجرح فيها من جُرح، في قرى هجيليجة وجادين وغيرها، ويعتقد أغلب السكان أن المليشيا هي التي تقوم بهذا القصف بدليل أن القذائف تنطلق من اتجاهات معاكسة لمناطق وجود الجيش، ويرون أن المليشيا تسعى من وراء ذلك لتحقيق هدفين؛ الأول محاولة إظهار أن الجيش يقصف المدنيين، والثاني مضايقة السكان حتى ينزحوا ويتركوا بيوتهم ليستوطنها الوافدون الجدد من مستنفري المليشيا وعائلاتهم، وبالفعل فقد خلت مربعات كاملة من ساكنيها واستوطنها الوافدون الجدد بعد أن نهبوا كل مقتنياتها.
هذا فضلا عن أطلاق الرصاص العشوائي وسط الأحياء مما أدى إلى مقتل وإصابة أعداد كبيرة من الناس.
وفي حوادث أخرى تم إطلاق الرصاص بشكل مباشر على بعض الفتيان في منطقة القيعة العام الماضي، وتكررت حوادث الإصابات المباشرة بالرصاص في الأرجل في بعض الأسواق بسبب أقل احتكاك مع مسلحي المليشيا.

الاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري:

مواطنون كثيرون تعرضوا للاعتقال إما من بيوتهم أو من أسواقهم وأحيانا على أيدي اللصوص من منتسبي المليشيا، بغير جريرة إلا ليخلوا لهم الجو لنهب مقتنيات منازلهم، ودائماً هناك اتهامات معلبة وجاهزة وهي أن هذا الشخص (بُلدة) أي عسكري باصطلاحهم، وأحيانا يحضرون معهم زيا عسكرياً ويزعمون أنهم وجودوه في المنزل كدليل إدانة!!.. الكثيرون من هؤلاء الضحايا المساكين لم يخرجوا حتى اليوم، وبعضهم قضى نحبه من الجوع والمرض داخل تلك المعتقلات، والبعض الآخر خرج ليروي روايات عن التعذيب والتجويع وظروف السجن يشيب لهولها الولدان!!..
أحد الضحايا الذين قضوا نحبهم داخل سجون الدعم، كما يروي شقيقه، فقد سمعه بسبب الجوع وسوء التغذية، وكان أخاه هذا يسعى في إطلاق سراحه ضمن مجموعة المحتجزين الذين أُفرج عنهم قبل أشهر بواسطة الصليب الأحمر، يقول إنه اكتشف آخر الأمر أن أخاه قد توفي قبل أكثر من عشرة أيام من اليوم المحدد للإفراج عنه ولكن المسؤولين في السجن أخفوا عنه الخبر!!.

السطو على البيوت والمحال التجارية:
في سوق قرية هجيليجة تم السطو في ليلة واحدة على ثلاث من الطواحين الأربع التي يعتمد عليها أهل القرية في توفير دقيق الذرة والقمح، واستعمل اللصوص المنشار لفصل عن القواعد الأسمنتية المثبتة لها، ثم نقلت بالسيارات!!.. رغم أن هذه الطواحين على بعد مائة أو مائة وخمسون متراً من المبنى الذي تستغله المليشيا مقراً لإدارة شؤونها ومركزاً شرطياً ونقطة تفتيش، ورغم أنها تجمع ضرائب يومية من أصحاب المتاجرة والباعة (الفرِّيشة) مقابل الحراسة وتوفير الأمن..ولا شيء من ذلك يتوفر، وحين يقوم التاجر بالتبليع عن السرقة يقال له إذا وجدت بضاعتك تعال وأخبرنا لنستردها لك!!.. ولكن حالات السطو على المتاجر المتكررة ألجأت أغلب أصحاب المتاجر إلى إغلاق متاجرهم.
أما السطو على المنازل فهو السلوك اليومي في قرى الصالحة، فما من منزل يخلوا من ساكنيه حتى يأتي المسلحون الملثمون ليلاً أو نهاراً لنقل مقتنيات وأثاثاته، حتى الأبواب يتم اقتلاعها لبيعها في أسواق دقلو، وكثيرا ما يقتحمون المنازل على أهلها وينهبونها تحت تهديد السلاح، خاصة إذا علموا أن بالمنزل سيارة أو دراجة نارية..كل ذلك تحت سمع وبصر مسؤولي المليشيا ضباطها الذين لا يحركون ساكنا، ولا يلتفتون لانتهاكات منتسبيهم ضد إنسان الصالحة المغلوب على أمره.
وواقع الحال أن منطقة الصالحة تعيش تحت سطوة العصابات المسلحة التي تمارس شتى أنواع القهر والإرهاب والقتل والسلب والنهب والترويع اليومي..
والصالحة لا يمكن أن تتماهى مع الدعم السريع ولا أن تقبل بوجوده وقد ذاقت منه الأمرَّين وتجرعت من كؤوس علقمه ما تجرعت.. وأحاديث الناس في مجالسهم الخاصة تتابع تقدم الجيش في محور أمدرمان وتنتظر اليوم الذي يتقدم فيه إلى تخومهم بفارغ الصبر، ليأمن المرابطون في بيوتهم، ويعود المهجَّرون بعد طول غياب.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى