سياسةمقالات

الهبوط الناعم ما بين السودان وتشاد                       

بقلم: مبشر الشريف

توطئة :

المصطلحات السياسية دائمة التحديث ولا يمر عام دون بروز مصطلح جديد تتناقله الألسن وتسير به الركبان، وهذه المصطلحات يشكلها الواقع من خلال المتغيرات التي تحدث فيه فيتولد من خلالها اتجاهات وبيئات وأنظمة تستوجب إحداث مصطلحات جديدة أو تعديل القديمة.

ومن المصطلحات التي راجت في سوق السياسة في سنواته الأخيرة مصطلح الهبوط الناعم، ويراد به في الأصل عملية نزول طائرة أو مركبة فضائية بصورة ناعمة وآمنة للأرض دون أن ينتج عنها ضرر أو تدمير كبير للمركبة أو حمولتها، ثم استعير للحلول الجيدة أو السهلة للمشاكل السياسية أو الاقتصادية.

وفي الفترة الأخيرة استخدم مصطلح الهبوط الناعم في عمليات اسقاط الانظمة بوسائل داخلية، بمعنى اختراق داخلي للنظام دون الحاجة الى الحراك العسكري العابر للحدود مع مراعاة التعقيدات الاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية لذلك البلد، وهذا يعني بالضرورة أن البلدان التي تُنزَّل فيها سياسة الهبوط الناعم تمتاز بهشاشة الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مع وجود خلل واضح في المنظومة الأمنية يتمثل في ظاهرة تعدد الجيوش والحركات المسلحة إلى جانب الحدود المفتوحة وسهولة دخول الأجانب وتأثر البلاد بنمط النزاعات في تلك الدول، إضافة إلى التدخل الخارجي و كثرة التقاطعات الدولية والإقليمية. والهبوط الناعم يفرض التعامل مع هذا الواقع المليء بالتعقيدات مع المحافظة على الأمن والاستقرار والعبور بالدولة إلى بر الأمان.

ومع أن هذا التعريف جميل في محتواه إلا أن أغلب الوقائع العملية تؤكد أن الهبوط الناعم ما هو إلا مرحلة تمهيدية للهبوط الخشن والانحدار نحو الهاوية، ولم يحقق نتائج إيجابية إلا في الدول القوية ذات المؤسسات الراسخة كجنوب إفريقيا.

وبما أن السودان آخر ضحايا الهبوط الناعم فإن المتابع لما يجري في المنطقة يستطيع قراءة المشهد في دولة تشاد نسبة لأوجه التشابه الكبيرة بين الدولتين، فمنذ أن نالت الدولتان استقلالهما وما من تغيير يقع في واحدة منهما إلا وخيّم بظلاله على الأخرى وبفارق زمني لا يتجاوز أربعة أعوام في أحسن حالاته، مع اختلاف في بعض الوسائل والتفاصيل التي تناسب كل بلد وطبيعته.

ففي نهاية ستينيات القرن الماضي ومطلع سبعينياته بدأ العنف السياسي في السودان متمظهراً في انقلابات دموية وعمليات عسكرية داخلية وعابرة للحدود، قادت إلى إضعاف مؤسسات الدولة وعدم استقرار سياسي استمر عقدين من الزمان، وهي ذاتها الفترة التي شهدت فيها تشاد حروبا أهلية واضطرابات سياسية وارتجاجات مجتمعية عنيفة فقدت معها تشاد سيادتها ووقعت فريسة الأطماع الخارجية .

وبعد عام ونصف من وصول (البشير) إلى سدة الحكم في السودان يتقلد (ديبي) مفاتيح السلطة في تشاد لتبدأ حقبة جديدة أحدثت الكثير من المتغيرات في البلدين، فبين النظامين تشابه وقواسم مشتركة بدأت بالاسم والشعارات وانتهت بالسياسات والممارسات، فالنظامان رفعا شعار إنقاذ البلاد من حافة الانهيار، فأطلق على نظام (البشير) (ثورة الإنقاذ الوطني) بينما أطلق على نظام (ديبي) (الحركة الوطنية للإنقاذ).

اتبع كل من النظامين سياسة تكريس الحكم المركزي القابض، المحتكر للسلطة والثروة، مع إطلاق حريات محدودة غايتها التنفيس بالقول والتعبير لا بالفعل والتدبير، وسمحا بنظام فيدرالي ناقص لتوسيع دائرة الخداع السياسي والتعمية عن سلوكهما الاستبدادي. كما اعتمد النظامان سياسة (فرِّق تسُد) عبر ضرب النسيج الاجتماعي والتحشيد القبلي والمناطقي ، والفتن الداخلية التي طالت حتى أبناء القبيلة الواحدة، كما سعى النظامان لاختزال المكونات الاجتماعية في أشخاص، لزيادة الغبن داخل المكون الواحد ولضمان السيطرة في ذات الوقت، ولم تقتصر سياسة التفريق على الجانب الاجتماعي فحسب؛ بل طالت الأحزاب والتنظيمات والنقابات والحركات المعارضة في الداخل والخارج، بل حتى مؤسسات الدولة لم تسلم منها.

الاقتصار على الحلول الأمنية كان هو السمة الأبرز في التعامل مع الخصوم السياسيين في بادئ الأمر. لذلك توجهت أغلب الأحزاب السياسية إلى الخارج مستخدمة كل وسيلة من أجل تقويض النظامين، فكثُرت الاضطرابات على الحدود، ودخل النظامان في دوامة الحروب المستنزفة للموارد المنهكة للدولة، ثم تلا ذلك إفساد الحياة السياسية باتباع أساليب الترضيات وبيع الذمم والولاءات عبر إغداق الأموال والمحاصصات القائمة على العِرق، فتحول المجال السياسي إلى سوق مفتوحة يتسابق إليها الجميع تحقيقا للكسب المادي الرخيص. فغاب السياسي المصلح وغابت الرؤية المنقذة وغلبت مفاهيم التفاهة وفسدت الأخلاق ووصلت البَلَدان إلى حافة الانهيار والتشرذم.

كما تميز نظام (البشير) بكونه أيديولوجيًا كامل الدسم سعى لبسط فكرته وتمكينها في مفاصل الدولة، بينما نظام (ديبي) لم يكن يحمل أي صيغة أيديولوجية خاصة إلا ما كان من دورانه في فلك النظام الرأسمالي العالمي، ومع ذلك فقد تأثر بنظام البشير في سنواته الأولى لتفاهمات بين النظامين، ولوجود عناصر مؤدلجة داخل النظام التشادي ساهمت في تمرير بعض المشاريع من أبرزها مشاريع دعم اللغة العربية.

وثمة فرق جوهري آخر بين النظامين؛ يتمثل في كون النظام السوداني تديره منظومة فكرية مؤسسية وما (البشير) إلا فرد داخلها لا يخرج عن مقرراتها ، بينما النظام التشادي تسيطر عليه عقلية الرجل الواحد، فالرئيس (ديبي) هو النظام والحركة والدولة ، وإن كان للقبيلة تأثير في أول الأمر إلا أنه تخلص من كل المؤثرات وطوَّعها لخدمته.

وعلى الرغم من الإخفاقات التي مُنِي بها النظامان، إلا أنهما حققا قدرا من النجاح والانجازات في مجالات أخرى : كالنمو الاقتصادي عبر استغلال الموارد، وتوسعة رقعة التعليم حيث ساهم ذلك في زيادة الوعي، وتحقيق تنمية شملت مناطق لم تطلها مشاريع التنمية من قبل، وحقق النظامان قدرا من الاستقلالية الذاتية جعلت بعض مواقفهما تحمل طابع الممانعة لهيمنة الاستعمار الجديد، إلي غير ذلك من المنجزات.

 

الهبوط الناعم :

النظام السوداني في أيامه الأولى تكوَّن من ركيزتين:

1/الحاضنة الفكرية: وهي (الحركة الإسلامية) التي ترسم السياسات العامة وتحدد الأهداف التي يريد النظام تحقيقها من خلال السلطة، ولها دور الرقابة وتقييم الأداء.

2/الحاضنة الحزبية: وهي (المؤتمر الوطني) ومهمته تفصيل أهداف الحركة في خطوات عملية وتنزيلها عبر مؤسسات الدولة، ومن ثم استيعاب أكبر قدر ممكن من الشعب للدعم والتأييد.

بدأ الهبوط الناعم في السودان بسحب النظام من حاضنته الفكرية عبر إقصاء (الحركة الإسلامية) وعَرَّابها (دكتور حسن الترابي) وجُل رموزها الفاعلة، فأصبح النظام بركيزة واحدة يمثلها الحزب، وهذا أدى إلى ضعف واضح وخلل بين في الضبط والسيطرة حيث تحول الحزب بعدها إلى تكتلات وجماعات متنافسة، بل متناحرة، وتنازل الحزب عن جُلّ مبادئه الفكرية معتمداً مبدأ البراغماتية في الممارسة.

ثم من وسائل الهبوط الناعم إغراء النظام بتوقيع اتفاقية السلام التي تبين أنها فخ كان المقصود منه إضعاف الدولة وخنق النظام اقتصاديا بذهاب أكثر حصته من البترول إلى دولة جنوب السودان بعد الانفصال، حيث إن البترول كان يمثل 80% من ميزانية الدولة.

ثم تلا ذلك سحب البشير من حاضنته الحزبية وعزله عن محيطه المؤثر والتحكم به عبر أفراد كان من أبرزهم مدير مكتبه (طه عثمان الحسين) الذي أقنعه بضرورة تكوين ميليشيا مسلحة موازية للجيش تحميه من نقمة رفقاء دربه السابقين.

ثم تلا ذلك كله عزل السودان عن محيطه المؤثر وإدخاله تحت عباءة الأنظمة الملكية الخليجية ، فغدا النظام بلا ركائز، لذلك تهاوى وسقط في أول مواجهة سلمية مع الشعب الذي اكتوى بنار الغلاء والاقتصاد المنهار، ولم تُغن عنه أدوات الحماية شيئا بل تبين أنها إحدى أدوات الهبوط الناعم.

سقوط نظام (البشير) لم يكن يعني نهاية الهبوط الناعم، بل من أهم الخطوات التي تلت السقوط تسليم البلاد إلى أفراد يفتقرون إلى الخبرة والتجربة، وليس لديهم أدنى معايير الكفاءة لإدارة الدولة في مرحلة حرجة ومفصلية كالفترة الانتقالية، فتلك كانت السمة البارزة للذين تصدروا المشهد بشقيهم العسكري والمدني.

وفي الفترة الانتقالية تم تضخيم قوات الدعم السريع من حيث العدد والعتاد، وأفسح المجال أمامها للتمكن من مفاصل الدولة الأمنية والاقتصادية ثم السياسية، وفي ذات الوقت تم التخلص من كل قوات موازية أخرى يمكن أن تحدث فارقا في المرحلة القادمة، كما عملوا على إضعاف القوات المسلحة عبر فصل أعداد كبيرة من الضباط وإحالتهم إلى الصالح العام.

وفي ذات الفترة، نقلت المعارضة المسلحة من الخارج إلى الداخل عبر اتفاقية سلام مشبوهة رسمت معالم السودان المستقبلية عبر تقسيمه إلى مسارات خمس. والمقصد من هذه الخطوة هو نقل الحرب من الخارج إلى الداخل، ومن الهامش إلى المركز. والحرب في المركز تعني نهاية الدولة.

هذه الإجراءات أوصلت البلاد إلى طريق مسدود، ومرحلة صفرية لم تتحقق فيها أدنى درجات التوافق السياسي، بل قادته إلى حرب شاملة قضت على كثير من مقدراته ومكتسباته، ولا يُراد لها أن تتوقف حتى تبلغ غاياتها المرسومة لها.

ومن خلال هذه اللمحة العامة لخطوات الهبوط الناعم في السودان نستطيع قراءة الأحداث في تشاد مع مراعاة الفروق بين البلدين.

الوضع في تشاد ليس بذلك التعقيد الموجود في السودان، فالصراع هناك اجتماعي بعيد عن التعقيدات الفكرية والأيدلوجية وغالبه مفتعل من قبل الأنظمة نفسها، لذلك لم يشهد النظام التشادي في عهد (ديبي) عمليات تدل على الهبوط الناعم إلا ما كان من محاولات الاحتواء عبر زوجته (هندة) ذات العلاقات الخارجية المشبوهة، أو افتعال الأزمة الاقتصادية في العام 2015، فشخص مثل (ديبي) يصعب احتواؤه لقوة شخصيته وخبرته الطويلة وإلمامه بالتعقيدات الداخلية والخارجية وضعف المنافسين له . فكان لا بد من التخلص منه وتغييبه عن المشهد، وتهيأت الأجواء لمرحلة جديدة. لذلك تم اغتياله بسلاسة وألصقت التهمة بحركة المعارضة (فاكت) والتي هي الأخرى كانت ألعوبة في يد محركيها.

وتأمل الفرق بين سقوط (البشير) وسقوط (ديبي) لم يتجاوز العامين، ليؤكد ما أشرنا إليه سابقا أن أي تغيير يقع على واحدة من الدولتين ينعكس على الأخرى.

وبعد رحيل ديبي بدأت سلسلة من الإجراءات أشبه بالإجراءات التي أوصلت السودان إلى حالته البئيسة اليوم؛ وهي كالآتي:

أولا: تصدر المشهد أفراد يفتقرون إلى الخبرة ويجهلون التعقيدات الداخلية والخارجية وفي مقدمتهم رأس النظام (محمد كاكا).

ثانيا: محاولة عزل الرئيس (محمد كاكا) عن حاضنته الاجتماعية ومحيطه المؤثر والتحكم به عبر افراد من ابرزهم مدير مكتبه (ادريس يوسف بوي) الذي هو بمثابة (طه عثمان الحسين) (للبشير).

ثالثا: التخلص من أركان حرب والده وإحالتهم إلي الصالح العام.

رابعا: اعتماد سياسة تعدد الجيوش عبر بناء قوة عسكرية جديدة سميت ب(قوات التدخل السريع) ينتمي غالب أفرادها إلى مكونات قبلية منافسة لقبيلة الرئيس التي تسيطر على القوة العسكرية القديمة (الحرس الجمهوري)، في إشارة واضحة إلى تهيئة الأوضاع لاحتكاكات خشنة على غرار ما حصل في السودان.

خامسا: نقل جبهات المعارضة من الخارج إلى الداخل عبر اتفاقية سلام تمت في (الدوحة) وعبر اتفاقيات ثنائية بين النظام وجبهات معارِضة، وما تبقى منها بالخارج تم تجريده من كل أدوات الحركة أو زُج به في محرقة السودان.

سادسا: إدخال تشاد في حلف الأنظمة الملكية الخليجية و هذا مؤشر آخر يدل على خطورة الوضع، فقد بدا واضحا لكل متابع أن دولة الإمارات ما دخلت بلداً إلا أذاقت أهله الويلات.

سابعاً: إطلاق حملات مسعورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي هدفها تفتيت المجتمع وإثارة النعرات.

كل هذه الإجراءات تنذر بكارثة قريبة تكون شرارتها اغتيال (محمد كاكا) أو محاولة الانقلاب عليه، وليس ذلك بالأمر البعيد، إلا أن يتدارك الله العباد بلطفه.

 

وهنا سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ: هل إسقاط هذه الأنظمة بحاجة إلى كل تلك الإجراءات؟

أو بمعنى آخر هل الأنظمة الحاكمة اليوم مثالية وتشكل خطرا يستوجب التعامل معها بهذه الطرق المعقدة؟

والجواب: أن هذه الأنظمة قطعاً ليست قوية ولا مثالية، ولا تشكل خطرا على النظام العالمي ، وليس المقصود إسقاطها لذاتها، بل المقصود في الأساس إسقاط الدول وإغراقها في مستنقع الصراعات ودوامة الحروب، وتهيئة المنطقة لما يتوافق مع النظام العالمي القادم أو (الاستعمار الجديد) في عملية أشبه بالولادة القيصرية يتم فيها بتر أطراف الدول وتمزيق نسيجها وتدمير بنيتها.

 

الخلاصة :

هذا الكون له رب يملكه ويدبر شؤونه، وما يقع فيه من أمر إنما هو بإرادته ومشيئته، وهذا من أبجديات عقيدة المسلم التي جلّاها القرآن بكل وضوح، وليس هناك أبلغ في الدلالة من قوله سبحانه (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين)

وقوله (والله من ورائهم محيط )

وقوله (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). وأما التغيير فهو مطلب يقتضيه الواقع ويمليه ، لكن يجب أن يكون بإرادة داخلية لا بإملاءات خارجية، وبوسائل تراعى فيها المصالح الكلية لتفويت الفرصة على أعداء الشعوب والإنسانية.

وعلي العقلاء في تشاد التدخل لإنقاذ البلاد قبل فوات الأوان، والسعيد من وُعظ بغيره.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى