بُغْيَةُ الوُعَاةِ في بَيانِ أنَّ (الدَّعْمَ السَّريعَ)، مِنْ المُحارِبينَ لا البُغَاة
عمر أحمد محجوب الكنزي
تَشْتَمِلُ هذه الحَلْقةُ على الآتي:
(1) تَمْهيدٌ.
(2) تعريفُ البُغاةِ –لُغةً واصطلاحًا-.
(3) اتفاقُ المذاهِبِ الأربعةِ، في تعريفِ البُغاةِ.
(4) أهميَّةُ اشترَاطِ (التأويلِ)، في الوصفِ بالبُغاةِ.
(5) نقْلُ الإجماعِ على وجوبِ قِتالِ البُغاةِ.
(6) بيانُ عدَمِ صِحّةِ وصفِ (الدَّعمِ السريعِ)، بالبُغاةِ.
﴿تَمْهِيدٌ﴾
الحَمْدُ للهِ، ناصِرِ عِباده المؤمنينَ، ومؤيدِ مَنْ نصَرَ الدِّينَ، وخاذِلِ المُبطِلين، وهازِمِ الكُفَّار أجمعينَ، أحْمدُهُ وهو أهلٌ لكلِّ حَمدٍ، وأشكُرُه هو أهلُ الثَّناءِ والمجدِ، وأشْهدُ ألا إلَهَ إلا هو، شهادةً ألقى بِها عِنده؛ الفوزَ والسَّعدَ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا، خيرُ رسولٍ، وأكرمُ عَبْدٍ، صلَّى اللهُ عليهِ، وعلى آلِهِ وصَحابتِهِ، المُستَكمِلينَ الشَّرَفَ والسؤددَ..
أمَّا بعدُ
فكنتُ قد ألقيتُ، تعقيبًا بعدَ صلاةِ الجُمُعةِ بتاريخِ 6 من ذي القعدة 1444، يوافقه 26 مايو 2023، ذكَرْتُ فيهِ أنَّ التوصيفَ الفقهيَّ لِمُتمرِّدي الدَّعمِ السريعِ؛ بأنَّهُم (بُغاةٌ)، فيهِ نَظَرٌ، بِناءً على تعريفِ الفُقهاءِ للبُغاةِ –كما سيأتي توضيحُهُ-؛ أولًا، وثانيًا: على ما قامَ بِهؤلاءِ المُجرمينَ، مِنْ صفاتٍ وأوصافٍ، تُخالِفُ ما جرى على ألسنةِ الفُقهاءِ من تعريفِهم للبُغاةِ، فأحببتُ أنْ أزيدَ الأمرَ إيضاحًا وبيانًا، بهذا المَبْحثِ العِلميِّ، سائلًا اللهَ؛ التوفيقَ، والإخلاصَ في القولِ والعملِ.
﴿تَعرِيفُ الفُقهاءِ للبُغاةِ﴾:
أولًا: البُغاةُ لُغةً:
جَمْعُ باغٍ، وهو المُعْتَدِي المُتجاوِزُ في الظُّلمِ والفسادِ.
قالَ ابنُ فارِسٍ في «مقاييس اللغة» (1/271): «الْبَاءُ وَالْغَيْنُ وَالْيَاءُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا: طَلَبُ الشَّيْءِ، وَالثَّانِي: جِنْسٌ مِنَ الْفَسَادِ»
قالَ ابنُ الأثيرِ في «النِّهاية» (1/143): «أَصْلُ البَغْي: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ».
وفي «لسان العرب» (14/78): «والبَغْيُ: التَّعَدِّي. وبَغَى الرجلُ عَلَيْنَا بَغْياً: عَدَل عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ»، وقال: «والبَغْي: الظُّلْم وَالْفَسَادُ» «وكلُّ مُجَاوَزَةٍ وَإِفْرَاطٍ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي هُوَ حَدُّ الشَّيْءِ؛ بَغْيٌ»
وهو: الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، كما في «التحرير والتنوير» للطَّاهِرِ بنِ عاشور (26/240).
ثانيًا: البُغَاةُ اصطلاحًا:
هُمْ مَنْ اجتَمَعتْ فيهِم أمورٌ:
(1) قِتالُ الحاكِمِ، وشَهْرُ السِّلاحِ على الأُمَّةِ.
(2) أنْ تكونَ لهُم شوْكةٌ.
والمُرَادُ بالشَّوْكَةِ: السِّلاحُ.
(3) أنْ تكونَ لهُم مَنَعةٌ.
والمُرادُ بالمَنَعَةِ: الكثْرَةُ التي يَمنَعُ بعضُها بعضًا، ويُهَابُ جانِبُها.
(4) أنْ يكونَ لهُم تأويلٌ في قِتالِهِم.
والمُرَادُ بالتَّأويلِ: الحُجَّةُ والمُستَمْسَكُ الشَّرعيُّ الذي يستنِدون عليهِ في الخُرُوجِ.
(يُراجَعُ في ذلِكَ: «المطلِعُ على دقائقِ زادِ المُستقنِعِ» (4/207))
﴿تَعْريفُ البُغاةِ، عِنْدَ فُقَهاءِ المذاهِبِ﴾:
(أ) قالَ ابنُ قُدامةَ في «المُغْنِي» (8/526): «قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَيَرُومُونَ خَلْعَهُ لَتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، وَفِيهِمْ مَنَعَةٌ، يَحْتَاجُ فِي كَفِّهِمْ إلَى جَمْعِ الْجَيْشِ، فَهَؤُلَاءِ الْبُغَاةُ»
(ب) وقالَ النَّوويُّ في «رَوْضَةُ الطَّالِبينَ» (10/50) -مؤكِّدًا أهميَّة اشتِراطِ التأويلِ، في الوصفِ بالبُغاةِ، وأنَّهُ عِندَ انتفاءِ التأويلِ؛ لا تكونُ لهُم أحكامُ البُغاةِ-: «أَمَّا الْبُغَاةُ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِمْ خَصْلَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَعْتَقِدُونَ بِسَبَبِهِ جَوَازَ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ مَنْعَ الْحَقِّ الْمُتَوَجَّهِ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ خَرَجَ قَوْمٌ عَنِ الطَّاعَةِ، وَمَنَعُوا الْحَقَّ بِلَا تَأْوِيلٍ -سَوَاءٌ كَانَ حَدَّا أَوْ قِصَاصًا أَوْ مَالًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْآدَمِيِّينَ، عِنَادًا أَوْ مُكَابَرَةً، وَلَمْ يَتَعَلَّقُوا بِتَأْوِيلٍ-؛ فَلَيْسَ لَهُمْ أَحْكَامُ الْبُغَاةِ…
الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَعَدَدٌ، بِحَيْثُ يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِي رَدِّهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ؛ إِلَى كُلْفَةٍ، بِبَذْلِ مَالٍ، أَوْ إِعْدَادِ رِجَالٍ، وَنَصْبِ قِتَالٍ»
(ج) ونَصَّ القَرافيُّ المالِكيُّ، على اتفاقِ أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ على تعريفِ البُغاةِ بما سبقَ، فقالَ في تعريفِ البُغاةِ كما في «الذَّخِيرة» (12/5): «وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَى الْإِمَامِ، يَبْغِي خَلْعَهُ، أَوْ يَمْتَنِعُ مِنَ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِ، بِتَأْوِيلٍ، وَوَافَقَنَا الْأَئِمَّةُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ نَصُّوا على اشْتِرَاطِ الْكَثْرَةِ الْمُحْوِجَةِ لِلْجَيْشِ، وَأَنَّ الْعَشَرَةَ وَنَحْوَهَا؛ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ لَمَّا جَرَحَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ لِلْحَسَنِ: “إِنْ بَرِئْتُ رَأَيْتُ رَأْيِي، وَإِنْ مِتُّ فَلَا تُمَثِّلُوا بِهِ” فَلَمْ يُثْبِتْ لِفِعْلِهِ حُكْمَ الْبُغَاةِ. وَاشْتَرَطُوا التَّأْوِيلَ مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ، فَجَعَلُوا الشُّرُوطَ؛ ثَلَاثَةً»
وقالَ أيضًا في «الفُروق» (4/171): «الْبُغَاةُ هُمْ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ يَبْغُونَ خَلْعَهُ أَوْ مَنْعَ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ أَوْ تَبْغِي مَنْعَ حَقٍّ وَاجِبٍ بِتَأْوِيلٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَمَا عَلِمْتُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَبِهِ يَمْتَازُونَ عَنْ الْمُحَارِبِينَ» -أي: بالتأويلِ-
(د) قالَ ابنُ مودودٍ الموصِليُّ الحنفيُّ في «الاختيار لتعليل المختار» (4/151): «وَأَهْلُ الْبَغْيِ: كُلُّ فِئَةٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ، يَتَغَلَّبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ، بِتَأْوِيلٍ، وَيَقُولُونَ الْحَقُّ مَعَنَا وَيَدَّعُونَ الْوِلَايَةَ، وَإِنْ تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنَ اللُّصُوصِ عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ وَهُمْ غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ؛ أُخِذُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، لِأَنَّ الْمَنَعَةَ إِنْ وُجِدَتْ؛ فَالتَّأْوِيلُ لَمْ يُوجَدْ»
وهذا ما ذكَرَهُ الدكتورُ وهبةُ الزُّحيليُّ في «الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدِلَّتُهُ» (7/5483)، فقالَ: «البُغاةُ -باتفاقِ أئمَّةِ المَذاهبِ-: هُم الذينَ يخرُجون على الإمامِ يبْغُون خلْعَهُ، أو مَنْعَ الدُّخولِ في طاعتِهِ، أو يَبْغُون منْعَ حقٍّ واجِبٍ؛ بتأويلٍ في ذلِكَ كُلِّهِ، وبهذا التأويلِ؛ يمتَازون عن المُحارِبينَ»
والمُلاحظُ فيما سبقَ من تعريفٍ للبُغاةِ، أنَّ البُغاةَ: قومٌ من أهلِ الدِّيانةِ، ومِنْ أهلِ الصَّلاحِ، عبَّرَ عنْهُم ابنُ قدامةَ –فيما سبقَ- بِأنَّهم (قومٌ مِنْ أهلِ الحقِّ)، ولهُم تأويلٌ في سببِ خروجِهم، يستَنِدُ هذا التأويلُ إلى الشَّرْعِ، ويقومُ على أمرٍ دينيٍّ –كادِّعاءِ عَدَمِ قيامِ الحاكِمِ بالأمرِ بالمعروفِ، أو النَّهيِ عن المُنكرِ، أو وقوعِهِ في الظُّلمِ للرَّعيَّةِ، وعدمِ العدلِ بينَهُم-، فهذا أساسُ خروجِهم وقِتالِهم للحاكِمِ.
وبِناءً على ذلِك، فلا يصِّحُّ أنْ يُلْحَقَ مَنْ خرَجَ لأجلِ الدُّنيا، أو فسَادًا في الأرضِ، وفِسقًا بغيرِ مُستندٍ شرعيٍّ؛ بالبُغاةِ، فوصفُ (الدَّعمِ السَّريعِ) بأنَّهُم بُغاةٌ؛ خطأٌ بالنَّظَرِ لِابتِداءِ خروجِهِم، فإنَهُم إنَّمَا خرجوا وقاتَلُوا –أولًا: بِناءً على تصريحِهم، وثانيًّا: على ما عُلِمَ مِنْ حالِهم-؛ لِتحكيمِ (الاتفاقِ الإطاريِ) العالَمَانيِّ!، واستِجلابًا للمَدنيةِ المزعومَةِ –وهي الاسمُ المُحسَّنُ لِإبعادِ الدِّينِ عن دستورِ الدَّولةِ، وحُكمِها وقوانِينِها-، فَأنَّى لإمثالِ هؤلاءِ أنْ يكونوا مِنْ البُغاةِ؟
﴿التَّصْريحُ باشتِراطِ التَّأويلِ، في الوَصْفِ بالبُغاةِ﴾:
ومِنْ أصْرَحِ كلِماتِ أهلِ العِلمِ –إضافةً إلى ما سبَقَ-، في اشتراطِ التأويلِ في الفئةِ الخارِجَةِ، حتى تُوصَفَ بِالبُغاةِ:
ما قالَهُ بدرُ الدينِ بنُ جَمَاعةٍ في «تَحْريرُ الأحكامِ في تَدْبيرِ أهلِ الإسلامِ» (ص:240)، حيثُ قالَ:
«قد بَينا أَن الْبُغَاة هم الَّذين خَرجُوا عَن طَاعَة الإِمَام بِتَأْوِيل وَلَهُم شَوْكَة ومنعة، فَلَا بُد فِي صِفَةِ الْبُغَاةِ مِنْ شَرْطينِ: التَّأْوِيل والشَّوْكَة.»
وكذا ما قالَه العِزُّ بنُ عبدِ السلامِ في «الغَايةُ في اختِصارِ النِّهايةِ» (7/51): «ولا تَثْبُتُ أحكامُ البُغاةِ إلَّا بِشروطٍ:
أحدُهما: أنْ يكونَ لهُم تأويلٌ مُخَيِّل لا يعرفون بُطلانَهُ»
فعِنْدَ انتِفاءِ هذا التأويلِ، القائمِ على مرْجِعيَّةٍ شرْعيَّةٍ، والمُستنِدِ على ضَوابِطَ عِلميَّةٍ؛ لا يصِحُّ وصْفُ الخارِجينَ المُقاتِلينَ؛ بِالبُغاةِ، لاسيَّما، وقدْ ذَهَبَ جماعةٌ مِنْ العُلماءِ، إلى ترْكِ وصفِ البُغاةِ بالفِسْقِ، ونِسبتِهم إلى مُجرَّدِ المعصيَةِ، فهل يُتصَوَّرُ هذا في هؤلاءِ المُجرمينَ الآثِمينَ، من المقاتِلينَ المُنتسبينَ للدَّعمِ السَّريعِ، بأنْ يُرَفعَ عنْهُم حتى مُجرَّد الوصْفِ بالفِسْقِ، بعدَ وقوعِهِم في كبائرَ صريحةٍ، وجرائمَ قبيحةٍ؟
وإنَّما امتنَعَ بعضُ العُلماءِ من وصْفِ البُغاةِ بالفسْقِ؛ للتَّأويلِ.. فأيُّ تأويلٍ عِندَ هؤلاءِ القَتلَةِ؛ في قتلِهِم عامَّةَ المسلمينَ؟ وأيُّ تأويلٍ لهُم؛ في اغتِصابِ حرائرِ المؤمنينَ؟ وأيُّ تأويلٍ لهُم؛ في انتِزاعِ مُمتلَكاتِهم، ومَركِباتِهم ودُورِهم وأموالِهم؟
قالَ النَّوويُّ في «رَوْضةُ الطَّالبينَ» (10/50): «أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ بِاسْمِ ذَمٍّ، وَبِأَنَّ الْبَاغِينَ؛ لَيْسُوا بِفَسَقَةٍ، كَمَا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكَفَرَةٍ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهِمْ عُصَاةً، وَلَا يُسَمِّيهِمْ فَسَقَةً وَيَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَعْصِيَةٍ بِفِسْقٍ، وَالتَّشْدِيدَاتُ الْوَارِدَةُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَفِي مُخَالَفَتِهِ كَحَدِيثِ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ؛ فَلَيْسَ مِنَّا» وَحَدِيثِ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» وَحَدِيثِ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ؛ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَخَالَفَ الْإِمَامَ بِلَا عُذْرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ»
وأكَّدَ ما ذهبَ إليهِ النَّوويُّ -ومَنْ معَهُ مِنْ أهلِ العِلمِ-؛ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ كما في «الفتاوى الكُبرى» (3/457)، حيثُ قالَ: «وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا، أَوْ ظَالِمًا، أَوْ مُعْتَدِيًا، أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ قِسْمَانِ: مُتَأَوِّلٌ، وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ..»
ثُمَّ قالَ: «أَمَّا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ -وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ-، لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ بَاغِيًا؛ مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ يَقُولُونَ: مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ؛ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ؛ بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ؛ لَا يَفْسُقُونَ»
ونبَّهَ ابنُ تيميَّةَ –كما نبَّهَ غيرُهُ-، إلى أهميَّةِ أنْ يكونَ التأويلُ صَّادِرًا مِنْ أهلِهِ الذينَ يسوغُ لهُم ذلِك، وكانَ مبْعَثُهُ؛ الشَّرْعَ والدِّينَ، لا أنْ يكونَ الباعِثُ؛ الهَوى وطلبَ الدُّنيا، وإبطالَ الحقِّ، وإرغامَ الناسِ على الباِطلِ –كالاتفاقِ الإطاريِّ-، فقالَ: «أَمَّا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا..»، وقالَ أيضًا:
«فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ -كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ-، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ؛ حِلَّ أُمُورٍ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ؛ تَحْرِيمَهَا، كَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ؛ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ، وَبَعْضُهُمْ؛ بَعْضَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ؛ بَعْضَ عُقُودِ التَّحْلِيلِ وَالْمُتْعَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَقَدْ جَرَى ذَلِكَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ. فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا»، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ؛ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مَلُومًا، وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ؛ يَكُونُ إثْمًا وَظُلْمًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ؛ فِسْقًا، بَلْ مَتَى عَلِمَ تَحْرِيمَهُ ضَرُورَةً، كَانَ تَحْلِيلُهُ؛ كُفْرًا.»
ولوْ قَارَنتَ ما سبقَ، مِنْ حالِ البُغاةِ، مِنْ ناحيةِ اجتِهادِهم في مسألةِ التأويلِ، الذي مِنْ أجلِهِ شهَروا السِّلاحَ، وقاتَلوا المؤمنينَ، ثُمَّ قارَنْتَهُ بحالِ الفئةِ الظَّالِمةِ المُجرِمَةِ مِنْ الدَّعمِ السَّريعِ؛ تيَقَّنْتَ أنَّ بينَ الحالينِ؛ مفاوزَ تنقَطِعُ فيها رِقابُ المُطيِّ.
﴿نقلُ الإجماعِ على وجوبِ قِتالِ البُغاةِ﴾:
توافَرَتْ نُقولاتُ أهلِ العِلْمِ، على ذِكرِ الإجماعِ في مسألةِ (وجوبِ) قِتالِ البُغاةِ –وغيرِهم مِنْ الخارِجينَ على الأُمَّةِ، يضْرِبون برَّها وفاجِرَها-، وهو مِمَا يزيدُ الطُّمأنينَةَ في قُلوبِ أهلِ الإسلامِ، على صِحَّةِ قِتالِهم لِمُجرمي الدَّعمِ السَّريعِ –مِنْ بابِ أولى.. فمِمَّنْ نقَلَ الإجماعَ على ذلِك:
(1) الإمامُ ابنُ عبدِ البَّرِّ:
ففي «التَّمْهِيد» (23/339)، قالَ –رحِمَهُ اللهُ-: «(أَجْمَعَ) الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَقَّ الْعَصَا، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَشَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ السِّلَاحَ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَأَفْسَدَ بِالْقَتْلِ وَالسَّلْبِ؛ فَقَتْلُهُمْ، وَإِرَاقَةُ دِمَائِهِمْ؛ (وَاجِبٌ)، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْفَسَادِ الْعَظِيمِ فِي الْأَرْضِ، وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ مُوجِبٌ لِإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ بِإِجْمَاعٍ»
(2) الإمامُ النَّوويُّ:
في «شرح مسلم» (7/169)، قالَ –رحِمَهُ اللهُ-: «(فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ؛ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا) هَذَا تَصْرِيحٌ (بِوُجُوبِ) قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ، وَهُوَ (إِجْمَاعُ) الْعُلَمَاءِ. قَالَ الْقَاضِي: (أَجْمَعَ) الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ وَأَشْبَاهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْبَغْيِ، مَتَى خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ، وَخَالَفُوا رَأْيَ الْجَمَاعَةِ، وَشَقُّوا الْعَصَا؛ (وَجَبَ) قِتَالُهُمْ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ وَالِإعْذَارِ إِلَيْهِمْ»
(3) القاضِي عِيَاض:
وكلامُ القاضي عِياضٍ –الذي نقَلَهُ النوويُّ-، في «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (3/613)
(4) بدرُ الدينِ العينيُّ:
قالَ –رحِمَهُ اللهُ- في «البناية شرح الهداية» (7/298): «وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ؛ على قتالِ البُغاةِ»
وقالَ الشيخُ محمدُ بنُ عليٍّ الأثيوبيُّ في «البَحْرُ المُحِيطُ الثَّجَّاجُ في شِرحِ صحيحِ الإمامِ مسلمِ بنِ الحَجَّاج» (20/263) –شَرْحًا لحديثِ الخوارِجِ-: «(فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ؛ فَاقْتُلُوهُمْ) هذا تصريحٌ بوجُوبِ قِتالِ الخوارِجِ، والبُغاةِ، وهو مُجْمَعٌ عليهِ»
وفي نَقْلِ الإجماعِ على قِتالِ البُغاةِ –فضلًا عن غيرِهم، مِمَّنْ هُم أسوأُ حالًا مِنْهُم: كالمُحارِبين والصَّائلينَ وقُطَّاعِ الطريقِ-؛ سَدٌّ للبابِ أمامَ المُتوقِّفين عن قِتالِ (الدَّعمِ السَّريعِ)، بِزعمِ أنَّهُم من المسلمينَ، أو أنَّ هذا القِتالَ، قِتالُ فِتنةٍ، يجِبُ فيهِ الإمساكُ والكَفُّ، وقَبْضُ اليدِّ عنْه والكَفِّ!. فإذا كانَ الإجماعُ منقولًا على وجوبِ قِتالِ البُغاةِ –وهُم أهلُ دينٍ وعِلمٍ، مع خروجِهم بتأويلٍ شرعيٍّ –وإنْ لم يكُنْ صوابًا في نفسِ الأمرِ-،-، فكيفَ يتوقَّفُ مُترَدِّدٌ، أو يتوَهَّمُ شاكٌ في قِتالِ مُجرِمين، مُحارِبين، انتفى عنْهُم وَشيجةُ العِلمِ وصلاحُ الدِّينِ، واختَفى في سببِ خروجِهم؛ التأويلُ المُبين؟
وهذا تصَوَّرٌ خاطئٌ، ومؤدَّاهُ خطيرٌ، يُفضي إلى إشاعةِ الفسادِ بين المُسلمين، ويُجَرِّئُ الفُجَّارَ والفُسَّاقَ على استِباحةِ حُرُماتِ المؤمنينَ، والحالُ أنَّ الناسَ؛ كافَّون أيديَهم عنْهم، مُمتَنِعون عن الأخْذِ على أيديهم بالقتالِ..
قالَ القُرطبيُّ في «الجامعُ لأحكامِ القرآنِ» (16/317): «في هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «قِتَالُ الْمُؤْمِنِ؛ كُفْرٌ». وَلَوْ كَانَ قِتَالُ الْمُؤْمِنِ الْبَاغِي كُفْرًا؛ لَكَانَ اللَّهُ –تَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِالْكُفْرِ، -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ!- وَقَدْ قَاتَلَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَنْ تَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ وَامْتَنَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَأَمَرَ أَلَّا يُتْبَعَ مُوَلٍّ، وَلَا يُجْهَزَ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَمْ تُحَلَّ أَمْوَالُهُمْ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ فِي الْكُفَّارِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ؛ الْهَرَبُ مِنْهُ، وَلُزُومُ الْمَنَازِلِ؛ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ، وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ وَالْفُجُورِ سَبِيلًا إِلَى اسْتِحْلَالِ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، بِأَنْ يَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ، وَيَكُفَّ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «خُذُوا عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ»»
[وسيأتي -إنْ شاءَ اللهُ- في الحلْقَةِ الثانيةِ، بيانُ أنَّ التوصيفَ الصحيحَ، للدعمِ السريعِ؛ أنهم مُحارِبون، وما يترَّتبُ على ذلك مِن أحكامٍ، مع ذكرِ الفوارِقِ بين قتالِ البُغاةِ، وقِتالِ المُحاربينَ.]
عمر أحمد محجوب الكنزي
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس