فولكر بيرتس.. وانتصرت إرادة الدبلوماسية السودانية!
د. الفاتح عبد الرحمن محمد بشير
وحبر قرار المؤسسة العسكرية برفض التمديد له وإعلانه شخصاً غير مرغوب فيه لم يجف بعد، يعلن المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة (ستيفان دوغاريك) أن صفة بيرتس لم تتبدل، ويبقى موقف الأمين العام كما عبر عنه أمام مجلس الأمن كما هو، في إشارة إلى الثقة المطلقة التي عبر عنها أنطونيو غوتيريش حيال موفده إلى السودان فولكر بيرتس، معتبراً أن هذا القرار يتنافى ومبادئ الأمم المتحدة، ولا يمكن تطبيقه، لافتاً إلى أن صفة الألماني لم تتبدل، ولكن إرادة الدبلوماسية السودانية كانت الأقوى، حيث ضغطت الخارجية السودانية وتحركت في كافة المحافل الدبلوماسية إفريقياً ودولياً، إلى أن رضخت المنظمة الدولية أخيراً مستجيبةً لرغبة السودان في عدم التجديد لممثلها فولكر بيرتس، واعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، واستبدلته بالكاميرونية (كليمنتين نكويتا) مديرة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بشرق إفريقيا سابقاً، لمواصلة مهام بعثة المنظمة الدولية بالسودان، ولقيادة فريق الأمم المتحدة القطري، والتعاون مع المؤسسات الحكومية السودانية ذات الصلة، والشركاء في الميدان، لتخفيف المعاناة، وتقديم المساعدات المنقذة للحياة، دعماً للسودان والشعب السوداني (حسب ما جاء في تغريدتها).
فلماذا كان إصرار المنظمة الدولية على فرض هذا الثعلب بيرتس رغم أنف السودانيين والمؤسسة العسكرية السودانية؟ هذا التساؤل قادنا للبحث والتقصّي عن حقيقية ادعاء الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش بأن قرار المؤسسة العسكرية باعتبار بيرتس شخصاً غير مرغوب فيه يتنافى ومبادئ الأمم المتحدة. فبالرجوع لاتفاقية فيينا التي نظمت عمل البعثات الدبلوماسية والتي تم اعتمادها بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1961م، نجد أن هناك نص يحدد الحالات التي يحق فيها للدولة المضيفة (والتي يمثلها السودان هنا) اعتبار المبعوث الدبلوماسي شخصاً غير مرغوب فيه، مما يعني مغادرته لهذه الدولة عقب نهاية الفترة التي تحددها الاتفاقيه والتي لا تتجاوز الثلاثة أيام كحدٍ أقصى، فقد جاء في المادة التاسعة من الاتفاقية ما يلي: يجوز للدولة المعتمد لديها في جميع الأوقات (ودون بيان أسباب قرارها)، أن تعلن للدولة المعتمدة أن رئيس البعثة أو أي موظف دبلوماسي فيها، شخصاً غير مرغوب فيه، أو أن أي موظف آخر فيها غير مقبول. وفي هذه الحالة تقوم الدولة المعتمدة حسب الاقتضاء، إما باستدعاء الشخص المعني، أو بإنهاء خدمته في البعثة. ويجوز
إعلان شخص ما غير مرغوب فيه أو غير مقبول، قبل وصوله إلى إقليم الدولة المعتمد لديها. انتهى.
إذن فنص الاتفاقية واضح ومحدد في أحقية الدولة المضيفة (دون بيان أسباب قرارها) أن تعلن أن مبعوثاً دبلوماسياً ما، شخصاً غير مرغوب فيه، فما بالك إن كانت هناك أسباب مقنعة مرفقة طي القرار، تدلل على قانونية هذا الإجراء من قبل الدولة المضيفة، وهو بالتأكيد ما أرفقته الدولة السودانية مع قرارها للمنظمة الدولية، باعتبار فولكر بيرتس شخصاً غير مرغوب فيه.
وبالنظر للسوابق الإفريقية من ذات النوع، نجد أن المجلس العسكري الحاكم بجمهورية مالي، قام في فبراير الماضي بإعلان (غيّوم نغيفا أتوندوكو أندالي) رئيس قسم حقوق الإنسان ببعثة المنظمة الدولية بمالي، وهو مواطن من جمهورية الكونغو الديموقراطية، شخصاً غير مرغوب فيه، وعليه مغادرة التراب الوطني في غضون 48 ساعة، معللاً اتخاذه لهذا القرار، بقيام أتوندوكو بارتكاب أفعالاً تخريبية مزعزعة للاستقرار في البلاد، ولم تتراجع مالي عن قرارها قيد أنملة، مما اضطر الأمم المتحدة لسحب ممثلها ومنعه من مواصلة عمله بباماكو العاصمة والتي كان قد غادرها فعلاً قبل صدور القرار، كما حدث مع بيرتس الآن.
كما قام السودان في العام 2006م أيضاً، بطرد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة (يان برونك) من البلاد، حيث أبلغته الخارجية السودانية بضرورة المغادرة خلال 72 ساعة، وذلك احتجاجاً على تصرفاته المريبة وإساءته للجيش السوداني. وكانت القيادة العامة للجيش قد أصدرت بياناً اعتبرت فيه برونك شخصاً غير مرغوب فيه بسبب تدخله في شؤون خاصة وعسكرية. تجدر الإشارة إلى أن برونك عمل في السودان منذ العام 2004م مبعوثاً للأمين العام للأمم المتحدة، كما شارك في مفاوضات السلام التي انتهت بوقف الحرب في الجنوب في العام 2005م، كما قام برونك بأدوار في دارفور اعتبرتها الحكومة السودانية مساندة للمتمردين، حيث تم لفت نظره أكثر من مرة لزيارات قام بها لشمال السودان متفقداً بعض أحوال المتأثرين من قيام سد المناصير في مخالفة صريحة لدوره الأممي في السودان.
إذن فالشواهد كثيرة ومتنوعة على انتهاك موظفي المنظمة الدولية لسيادة وخصوصية بعض الدول الإفريقية، ومخالفاتهم الصريحة للأدوار المحددة التي يفترض قيامهم بها في هذه الدول التي لن ترضى بأي حال من الأحوال استمرار هذا المبعوث أو ذاك، في ممارسة تدخله السافر في شأنها الداخلي والذي قد يصل لدرجة زعزعة أمن واستقرار هذه الدول دون أن تحرك ساكناً، وتأتي مطالباتها في مغادرة هذا المبعوث منسجمة مع القانون الدولي المنظم لعمل البعثات الدبلوماسية والذي تمثله هنا اتفاقية فيينا للبعثات الدبلوماسية لسنة 1961م، دون الإخلال ببقية مهام هذه البعثات، ودون تنازل هذه الدول كذلك عن صيانة أمنها وسيادتها على أراضيها.
عفواً بيرتس… فأنت شخصاً غير مرغوب فيك.. ابق حيث كنت وستصلك أغراضك كاملة دون نقصان!
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس