سياسةكاتب ومقالمقالات

*المؤسسة العسكرية السودانية وضرورة استعادة ضبط المصنع*

*د. الفاتح عبد الرحمن محمد بشير*

تحدثنا في مقال سابق بعنوان *(سودان ما بعد الخامس عشر من أبريل 2023م.. قراءة أولية)* عن أن المؤسسة العسكرية السودانية مرت بحالة من الانكسار وتقاطع المصالح جعلتها في أضعف حالاتها بعد أن صالت وجالت في حرب الجنوب منذ العام 1983م وحتى العام 2005م الذي شهد توقيع اتفاقية السلام التي مهدت لانفصال جنوب السودان عن شماله، وذكرنا في هذا المقال أن الجيش السوداني خلال تلك الفترة كان في أوج عظمته وعنفوانه وتماسكه الداخلي الذي انعكس على الإنجازات الواسعة التي حققها في حرب متمردي الحركة الشعبية، وذلك بتحرير جل المناطق التي سيطرت عليها الحركة ووضعه لها في كماشة محكمة، ولولا التدخلات الخارجية وصراع المحاور حول السودان للسيطرة على موارده، لتم القضاء على كافة جيوب التمرد آنذاك، ولأصبح جنوب السودان خالياً مما يعرف بالحركة الشعبية التي اضطرت فعلياً للتراجع خارج الحدود (كينيا ويوغندا) لترتيب أوراقها، لتعود مرةً أخرى بمساعدة المحاور، لتصبح شريكاً فعلياً في حكم السودان، ثم ما لبثت أن انفصلت بثلث مساحة البلاد، وبأكثر من ثلثي النفط الذي بدأ استخراجه قبيل هذه الفترة بقليل.
وبنظرة سريعة على واقع الجيش السوداني الآن، نجد أن فترة الركود التي مرّ بها عقب توقف العمليات العسكرية بجنوب السودان في العام 2005م، جعلت عملية التحديث المستمر التي كان يمارسها الجيش في عتاده العسكري وقوته البشرية تتباطأ وتيرتها بدرجة كبيرة، حيث اقتصرت عملية التحديث هذه على بعض المناورات المتباعدة التي تجريها المؤسسة العسكرية بين الحين والآخر، والتي غالباً ما تتم بذات الأسلحة القديمة، أما الأسلحة الحديثة التي يتم تزويد هذا الجيش بها، فلا يتم استعراضها إلا نادراً، بل يقتصر هذا الاستعراض على التدشين الأولي لهذه الأسلحة التي غالباً ما لا يتم استخدامها بعد ذلك، كما حدث لطائرات الأباتشي التي تم تدشينها في استعراض كبير في قاعدة وادي سيدنا الجوية في العام 2016م، ولم تستخدم بعد ذلك مطلقاً.
إذن يحتاج الجيش السوداني بعد أن تمر هذه الأزمة بمشيئة الله تعالى، إلى استعادة ضبط المصنع الذي أعني به أن يعود هذا الجيش لسابق عهده في التحديث والتطوير المستمر، ومواكبة مستجدات التقنيات الحربية التي قفذت قفذات واسعة خلال العشرية الماضية، فالمرحلة المقبلة يبدو أنها ستكون ساخنة وملتهبة ولن تستقر الأوضاع في البلاد بالقضاء على تمرد الدعم السريع الحالي، الذي لا يعدو أن يكون سيناريو صغير من السيناريوهات التي تذخر بها جُعبة دول المحاور وأعداء السودان الذين لن يهدأ لهم بال إلا بالوصول لمآربهم الخبيثة الساعية لتفكيك وحدة السودان، وتقسيمه لدويلات صغيرة متناحرة، للاستفراد بنهب موارده الضخمة، والذي لن يتحقق إلا بالقضاء على الحصن الأخير الذي يحول دون تحقيق هذه المطامع، وهو الجيش السوداني.
ولتحقيق هذه الاستعادة للقوة والعنفوان للمؤسسة العسكرية السودانية، يجب الاستفادة من القوة العسكرية التركية والخبرات النوعية التي بها، كما يجب عدم إغفال القوة العسكرية الشرقية في كل من الصين وروسيا على الرغم من ثبوت تورط فاغنر الروسية في القتال بجانب قوات الدعم السريع، ولكن هذا لا يمنع بالضرورة من الاستفادة من التقنيات الحربية الروسية بعد الوصول لتفاهمات واضحة حول فضيحة فاغنر، وذلك بالتعهد بعدم تكرار هذه التجربة، بحسبان أن ما سيجمع الروس بالسودان من مصالح اقتصادية عسكرية مشتركة (القاعدة العسكرية الروسية على البحر الأحمر) أكبر من أن تضحي به روسيا بسبب شركة مرتزقة محسوبة عليها، أما التنين الصيني فما في جُعبته التقنية الحربية من مفاجآت، يمكن أن يصنع فارقاً كبيراً في مستوى التسليح والتقنيات الحربية بالمؤسسة العسكرية السودانية، كما أن المصالح الاقتصادية الضخمة بين البلدين، يمكن أن تكون قرباناً مغرياً للصين نظير تزويد السودان بحاجته من التسليح مما يجعله في منطقة آمنة حال الشعور بالخطر.
يحتاج الجيش السوداني وهو بصدد استعادته لضبط المصنع أيضاً، إلى الاهتمام بأفراده من المقاتلين كماً ونوعاً، فالأزمة الأخيرة كشفت حجم الحاجة الكبيرة لمقاتلين من طراز جديد، ولولا المهارة الفائقة لقادة الميج والسوخوي من الضباط حديثي التخرج من المؤسسة العسكرية والالتحاق بهذا الفرع وإجادته في فترة وجيزة، لكانت موازين القوى قد اختلت بصورة كبيرة، ولانعكس ذلك على النتائج الميدانية. إذن الاهتمام بالأفراد يجب أن يكون ضمن أولويات الجيش السوداني في المرحلة المقبلة، وهذا الاهتمام يشمل بالضرورة الوضع الاقتصادي والعائد المجزي لهؤلاء الأفراد الذين أبلوا بلاءاً منقطع النظير على الرغم من شح الإمكانات وضعف الإعداد الذي ظهر في بطء الاستجابة والتعامل وردة الفعل خلال أزمة تمرد الدعم السريع الحالية.
تبقى استراتيجيات المؤسسة العسكرية في النهاية، وتقييمها لوضعها الحالي وما تحتاج إليه من تحديث وإعادة صياغة، هو الدافع لها للوصول للمستوى الأمثل الذي يؤهلها للدفاع عن السودان وأرضه في وجه ما يُحاك له من دسائس ومكائد لن تتوقف بأي حال من الأحوال بالقضاء على الدعم السريع وغيره مما يهدد أمن وسلامة السودان وسيادته على أراضيه.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى