سياسةمقالات

سودان ما بعد الخامس عشر من أبريل 2023.. قراءة أولية

الفاتح عبد الرحمن محمد بشير 

ملامح مرحلة جديدة في تاريخ السودان الحديث بدأت تلوح في الأفق متزامنة مع نهايات حرب الخامس عشر من أبريل 2023م بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع المتمردة. هذه المرحلة عنوانها العريض سودان مستقل القرار، غير خاضع لضغوط خارجية على المدى القريب، يؤسس لاستقلالية كاملة في شأنه الداخلي وشؤونه الخارجية على المدى البعيد.

ففي الوقت الذي قرر فيه قادة الجيش الذهاب لمفاوضة متمردي الدعم السريع في جدة؛ ليس لوقف الحرب وإعادة الأمور إلى ما قبل الخامس عشر من أبريل، وإنما لتحقيق أهداف معينة غلب عليها الطابع الإنساني، وظهر ذلك جلياً في مسودة فريق التفاوض، حيث لوّح هذا الأخير أكثر من مرة بالانسحاب من المفاوضات لعدم تفويضه فيما يطرحه الوسطاء من حلول تارة، ولشعوره بوجود ألغام ومطبات قد تضعه في موقف محرج حال قبوله بها تارة أخرى، فكان الرفض والالتزام بالمساحة المبذولة له من قادة الجيش هي الهادية له للمضي دون تعثر أو سقوط في مصيدة يصعب عليه الخروج منها، فضلاً عما ستجلبه له من عواقب وخيمة يصعب الفكاك منها.

فإصرار الوفد على الالتزام الصارم بخطة التفاوض المرسومة له من قبل القادة بالخرطوم، يعد ذلك أولى خطوات استقلالية القرار، ويضعه ذلك في خانة اللاعب الضاغط من أجل الوصول لهدفه المحدد وهو وقف الحرب بشروطه لا بإملاءات الوساطة، ويضع خصمه المتمرد في موقف الضعف الذي يضطره لقبول شروط الوفد السوداني، حتى يخرج من الصندوق المغلق الذي وضع نفسه وقواته المتمردة بالخرطوم فيه.

والناظر للجيش السوداني يرى أنه مر بحالة حادة من الانكسار وتقاطع المصالح كادت أن تودي به، وذلك قبيل حركة تصحيح المسار التي قام بها قادته في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م والتي مهدت لبداية الاتزان ومن ثم استعادة الحيوية التي بدأت تدب في أوصاله، والتي توجتها مغامرة الدعم السريع الأخيرة التي سرّعت باستعادته لكامل حيويته وبعض عنفوانه الذي فقد جزءاً كبيراً منه خلال فترة السبات الطويلة التي دخل فيها عقب انتهاء حرب الجنوب التي كان محافظاً خلالها على التحديث والتدريب المستمر لكافة عتاده العسكري وقوته البشرية.

فحالة الضعف والانكسار التي مر بها الجيش جعلت بعض موتوري قحت ينادون بأن يكون الدعم السريع بديلاً عنه متجاوزين حاجز الندية التي بدأ الأخير يشعر بها، بل ويترجمها لواقع متمثل في تسارع وتيرة التنظيم والتسليح والسعي لامتلاك الطائرات الحربية والدبابات بمعاونة بعض أعداء السودان الإقليميين، إلا أن مساعيه هذه باءت بالفشل، ولكنه لم يتوقف عن حلمه بامتلاك ما يرجّح كفته من أسلحة حال دخوله في مواجهة مباشرة مع الجيش السوداني، فكان أن يمم قائده محمد حمدان دقلو وجهه شطر تركيا للحصول منها على طائرات مقاتلة بدون طيار، فرفضت الأخيرة متعللة بأن هذا النوع من الطائرات لا تستطيع بيعه سوى للجيوش النظامية، فكان أن اكتفى دقلو بما حصل عليه من أسلحة حديثة وضع يده عليها عقب استيلائه على مقر هيئة العمليات بالخرطوم بعد تفكيكها، وأكمل ذلك بما وفرته له دولة الإمارات من عتاد جعله يشعر بالزهو وتساوي الكتوف مع الجيش السوداني صاحب الفضل عليه في التدريب وتوفير المقار العسكرية، بل وحتى انتداب ضباط من القيادات العليا والوسيطة للعمل بالدعم السريع.

لذلك نستطيع القول أن ثمة مؤشرات عديدة تجعل مرحلة ما قبل تمرد الخامس عشر من أبريل، تختلف تماماً عما بعدها بالنسبة للسودان الذي سيتغير فيه الداخل بدرجة كبيرة، حيث سيقل تأثير ما يعرف بالقوى المدنية التي كان موقفها سالباً فيما دار من المحاولة الانقلابية التي بادر بها الدعم السريع، وحسمها الجيش بقوة، بل إن مؤشرات التواطؤ الكبير بين هذه القوى المدنية والدعم السريع، تجعل منها هدفاً مستباحاً للتصفية والتأديب وتقليم الأظفار من قبل الجيش الذي سينفرد على المدى القريب والبعيد نوعاً ما، بعملية ترتيب هذا الداخل السوداني، تسنده جماهير الشعب التي فقدت الثقة تماماً في القوى المدنية، بل وربما تحولت لخانة المعاداة لها، بعدما تبيّن لها مدى الخيانة والتواطؤ لهذه القوى مع الدعم السريع، والتي كادت أن تعصف باستقرار السودان، هذا إن لم تحيله إلى ليبيا أو عراق أو يمن آخر.

وغير بعيد عن ترتيب الداخل السوداني في مرحلة ما بعد مغامرة الدعم السريع الفاشلة، يبدو أن العملية السياسية لن يكون لها وجود في هذه المرحلة في المدى القريب، وهذا ما صرّح به البرهان لقناة القاهرة الإخبارية، أي أن الأولوية ستكون لإعادة إعمار ما خرّبه الدعم السريع خلال مغامرته تلك، فحجم الدمار والخراب لا يتصوره عقل، وحتى بعد إعادة الإعمار، لا يتصور أن يسمح الجيش بانطلاق عملية سياسية إلا وفقاً لرؤيته وتصوره، لتتماشى مخرجات هذه العملية السياسية مع رؤية وتوجه المؤسسة العسكرية لسودان ما بعد الخامس عشر من أبريل، والذي لن يقبل فيه الجيش أية فوضى أو استلاب لإرادة السودانيين بواسطة قوى مدنية ثبت تورطها فيما حدث من محاولة إنقلابية، وعلى هذه القوى المدنية إن أرادت المشاركة الفاعلة والإيجابية في صناعة (السودان الجديد) أن تعيد ترتيب بيتها من الداخل واضعة نصب أعينها أن المرحلة القادمة لا تقبل المغامرات غير مدروسة العواقب، وأن الجيش لن يسمح لها بمحاولة إعادة تدوير وتدويل القضية الوطنية، بحسبانها شأن داخلي غير قابل للتدخل الخارجي أياً كان نوعه، كما على هذه القوى المدنية أن تعلم أنها ستكون تحت الرقابة المباشرة للجيش الذي لن يتوانى في اتخاذ كل ما من شأنه المحافظة على أمن واستقرار البلاد.

مرحلة ما بعد الخامس عشر من أبريل ستشهد انفتاحاً نوعياً لعلاقات السودان الخارجية، فالمؤسسة العسكرية بما أبدته من قوة وصرامة في حسم تمرد الدعم السريع، سيكسبها ذلك ثقة القوى الإقليمية والدولية التي ستكون مجبرة على التعامل مع هذا الواقع الجديد وإن كانت بعض هذه القوى هي من أوعز لحميدتي بالقيام بمحاولته الانقلابية الفاشلة، لما تربطه بها من مصالح اقتصادية ضخمة، يأتي الذهب في مقدمتها، والذي كان يمنحه حميدتي لبعض هذه الدول بأقل من السعر العالمي، بل وخارج بورصات الذهب العالمية المعروفة، كما يربطه بها مدها بالمرتزقة من المقاتلين الذين يستجلبهم من البلدان الإفريقية، ويجندهم في صفوفه، ومن ثم يدفع بهم لهذه المحاور مقابل ملايين الدولارات، فهؤلاء المرتزقة شاركوا معه في محاولته الانقلابية في السودان، وتم فضحهم على الملأ بجنسياتهم والبلدان التي ينتمون إليها، كما تمت تصفية معظمهم بنيران القوات المسلحة السودانية.

من ناحية أخرى ربما تحدث انفراجة نوعية في علاقة السودان بالولايات المتحدة الأمريكية التي يهمها في المقام الأول استقرار المنطقة، كما أنها تفضل التعامل مع الأنظمة العسكرية التي تستطيع خلالها تطويق منطقة شرق ووسط وجزء من شمال إفريقيا بهذا النوع من الأنظمة التي توفر لها قدراً مناسباً من المدافعة للطموح الروسي الذي بدأ يدبُّ في هذه المنطقة، فباستيلاء السيسي على السلطة في مصر، وتربع آبي أحمد على الهضبة الإثيوبية، وإحكام أفورقي قبضته على إريتريا، ومواصلة الجنرال محمد ولد الشيخ عثمان للعب دور الشرطي على موريتانيا، ثمة رضا نوعي يمثله استلام العسكر للسلطة في السودان يتماشى مع هذا التوجه الجديد للولايات المتحدة الأمريكية في إفريقيا، كما أن فشل المدنيين في الوصول للسلطة في السودان طوال ثلاثينية الإنقاذ وثلاثة الحرية والتغيير، يجعلهم في موقف الضعف بالنسبة للأمريكان الذين لا يتحالفون إلا مع الأقوى وإن كان ظاهره مخالفاً لهم آيديولوجياً ولكن موافقاً لهم تكتيكياً.

أما بالنسبة للاتحاد الإفريقي ومنظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، فلا أعتقد أن وضع السودان الجديد سيغيّر من علاقة هذه الكيانات به، طالما أنه لم يتجاوز حدود المعقول في التعامل مع أزمته الداخلية بحسبانها شأن سوداني خالص غير قابل للتدويل، ووضعه الجديد سيفرض على هذه الكيانات توفير قدر معقول من الاحترام المتبادل الذي تحميه وتحيط به مصالح هذه الأطراف من جهة، والسودان الجديد من جهة أخرى.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى