ردحاً من الزمان غاب قُرّاء السودان عن منصات التتويج في مسابقات القرآن الإقليمية والدولية، حتى تلك التي كان السودان منظّماً لها، لم يظفر قرّاؤه بالمراكز الأولى فيها، بل كان ترتيبهم دائماً في مراكز متأخرة، وإن حدث وأحرز أحدهم مركزاً متقدماً، يكون ذلك بسبب سلوكه لمسلك التلاوة المتعارف عليه (المقامات) والسائد في جميع الأمصار التي يتداعى قرّاؤها للتنافس، فيجد له موطيء قدم بينهم، ولكن سرعان ما يحدث الغياب عن منصات التتويج مرةً أخرى، لعدم مشاركة هذا الفائز في المنافسات اللاحقة (لإتاحة الفرصة لغيره)، ولعدم وجود منهجية ثابتة في خلاوى ومراكز تحفيظ القرآن، تضع في حسبانها (وهي بصدد تحفيظ هؤلاء القرّاء الذين غالباً ما يكونون حديثي السن) معايير الحفظ والإتقان التي تتبناها لجان التحكيم في المسابقات الخارجية، ما ينتج عنه أيضاً الخروج المبكّر من المنافسات.
فما هي هذه المقامات القرآنية؟
ولماذا لا يطبّقها قرّاء السودان في التلاوة؟
يحاول هذا المقال تتبّع هذه المسألة مستقصياً عنها، موضحاً الأسلوب المتّبع للتحفيظ في معظم خلاوي السودان والذي نتج عنه بروز مقام محلي (إن جاز التعبير) غير متعارف عليه في المنافسات الإقليمية والدولية، لوجود أخطاء واضحة فيه تتقاطع والمعايير المتبعة للتقييم من قبل لجان التحكيم.
تعريف المقامات القرآنية:
تُعرّف المقامات القرآنية بأنها ما يصاحب التلاوة من ترتيل وتجويد وتغنّي، وتدخل في تلاوته دونما تكلّف، بل بحسب الطباع البشرية. فتلاوة القرآن تستدعي التدبّر والخشوع، لما له من تأثير على السامع والقارئ، لتناسق حروفه وأوزانه، ما يحدو بالقارئ إلى التغنّي به فيكون له بالغ الأثر على النفس.
أنواع المقامات القرآنية:
بحسب الشيخ أحمد مصطفى كامل، أستاذ علم المقامات ورائده، وأشهر المتخصصين فيه (رحمه الله) والذي تتلمذ على يديه العديد من القرّاء، هناك ستة أنواع للمقامات القرآنية، هي:
مقام البيَّات: الذي يمتاز بالخشوع والرهبانية، ويجلب القلب ويجعله يتفكر في آيات الله ومعانيها.
مقام الرَّست: وهي كلمة فارسية تعني الاستقامة، ويفضّل أهل المقامات هذا المقام عند تلاوة الآيات ذات الطابع القصصي أو التشريعي.
مقام النهاوند: الذي يمتاز بالعاطفة والحنان والرقة، ويبعث على الخشوع والتفكر. ونهاوند هي مدينة إيرانية نسب إليها هذا المقام.
مقام السيكا: وهو مقام يمتاز بالبطء والترسل.
مقام الصبا: وهو مقام يمتاز بالروحانية والعاطفة.
مقام الحجاز: وهو مقام من أصل عربي، نسب إلى بلاد الحجاز العربية، وهو من أكثر المقامات روحانية وخشوعاً في القرآن.
أشهر المقامات المستخدمة في السودان:
انتشر في السودان مؤخراً مقام محلي لتلاوة القرآن أطلق عليه اسم مقام (الدوبيت أو الدوباي) الذي يرجع في أصله للطريقة التي يستخدمها الرعاة في بوادي السودان عموماً ومنطقة كردفان غربي السودان على وجه الخصوص، في توجيه الماشية نحو المرعى أو المشرب، باستخدام حُداء بصوت معين، بهدف لفت انتباه تلك الماشية لهذا المنشط أو ذاك. وقد قوبل هذا المقام بانتقادات شديدة، بحسبان أنه مخل بالقواعد الأساسية لتجويد وتلاوة القرآن، بل قد يؤدي أحياناً إلى اللحن في القرآن، الأمر الذي حدا بالجهات المختصة في وقت سابق في السودان، إلى إيقاف تسجيلات أحد القرّاء من البيع والتداول، لما فيها من أخطاء واضحة في قواعد التلاوة والتجويد، ولكن على الرغم من ذلك يعد هذا المقام هو الأكثر رواجاً وانتشاراً واستمالةً لقلوب المستمعين عبر المساجد ومحطات القرآن الإذاعية المختلفة، وقد ترتب على استخدام هذا المقام من قبل القرّاء السودانيين، إقصاؤهم من المنافسات الخارجية من الأدوار الأولى.
قرّاء السودان.. عودة لمنصات التتويج:
ظهر في السودان في الآونة الأخيرة بعض القرّاء الشباب الذين برعوا في التلاوة بالمقامات المتداولة خارج السودان والمستخدمة في المنافسات الإقليمية والدولية، خصوصاً مقام الحجاز الأكثر روحانيةً وخشوعاً، ووصلوا نتيجةً لذلك لمنصات التتويج محرزين مراكز متقدمة في منافسات القرآن الخارجية. وعلى الرغم من شبه الإجماع من علماء المملكة العربية السعودية على النهي عن تلاوة القرآن بالمقامات والذي وصل درجة التحريم، بحسبان أن هذه المقامات لصيقة الصلة بالموسيقى، ويغلب استخدامها في هذا الشأن، إلا أن المقامات المقصودة في هذا المقال والتي يكثر استخدامها خارج السودان كثيراً، هي (والله أعلم) ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، مشيراً إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا إلى تحسين الصوت بالقرآن. وكان لأبي موسى الأشعرى رضى الله عنه صوت حسن استمع إليه النبى وقال: «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود»، فقال أبو موسى رضي الله عنه: «لو علمت أنك تستمع إليّ لحبّرته لك تحبيراً». متفق عليه.
حبّرته: أي حسّنته وجمّلته.
