د.مدثر أحمد إسماعيل يكتب.. موقف الإسلام من استغلال حاجة الناس واحتكار ضرورات المعيشة
د. مدثر أحمد إسماعيل الباهي

الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحابته وسلّم تسليماً كثيراً
أمّا بعد:
فقد جاءت الشريعة بكلياتها الخمسة وأحكامها التكليفية لتكميل مصالح العباد وتحصيلها وتقليل المفاسد وتعطيلها
يقول بن القيم رحمه الله تعالى:
وإذا تأمَّلت الشَّريعة التي بعث الله بها رسوله ﷺ حقَّ التَّأمُّل وجدتها من أوَّلها إلى آخرها شاهدةً بذلك ناطقةً به، ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرَّحمة بادياً على صفحاتها، منادياً عليها، يدعوا العقول والألباب إليها .
فلا يوجد خيرٌ إلَّا ودلتنا الشَّريعة عليه، ولا شرٌّ إلا وحذرتنا منه، فأحكام الشَّريعة كُلُّها عدلٌ ورحمةٌ ومصالحٌ وحكمةٌ، وأيّما مسألةٍ خرجت من العدل إلى الجور ومن المصلحة إلى المفسدة، وخرجت عن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشَّريعة، فهذا الدِّين إنَّما جاء لسعادة البشر في الدُّنيا والآخرة، والسَّعادة لا تكون إلَّا بحصول المصالح في المعاش والمعاد، وكذلك دفع الشَّرِّ والضَّرر عن النَّاس في الدُّنيا والآخرة، وقد بيَّن الله تعالى صفة رسوله ﷺ والغاية من بعثته، فقال ربُّنا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[الأعراف:157]. فهو عليه الصَّلاة والسَّلام لا يأمر إلَّا بالمعروف الذي تعرفه العقول والفطر السَّليمة، ولا ينهى إلَّا عن المنكر الذي تأباه العقول والفطر السَّليمة، ولا يحلُّ إلَّا ما أحلَّه الله من الطِّيبات النَّافعات، ولا يحرِّم إلَّا ما حرَّمه الله من الخبائث الضِّارَّات والمضرَّات، ودينه هو دين الحنفية السَّمحة، قال شيخ الإسلام: “ومن استقرأ الشَّريعة في مواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد؛ تبيَّن له من ذلك ما يهديه الله إليه وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[ مجموع الفتاوى21/528].
وكلام العلماء في هذا الباب كثيرٌ، ومن عباراتهم: “التَّكاليف كُلُّها راجعةٌ إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم”
وقال الشاطبي: (الشَّريعة نفعٌ ودفعٌ “الشَّريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها وقال أيضًا :(الشريعة إنَّما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل)
ومن قواعد العلماء في كتب أصول الفقه والقواعد الفقهية التي تُحقِّق هذا المبدأ، مثل قاعدة : (الأصل في المنافع الحِل، والأصل في المضارِّ المنع)، وقاعدة: (لا ضرر ولا ضِرار)، وقاعدة: (الضَّرر يُزال)، وقاعدة: (الضَّرر لا يُزال بمثله)،
وإذا جئنا إلى أحكام البيوع والمعاملات بين الناّس لوجدنا أنّ
الشريعة الإسلامية يسّرت للناس سبل التعامل بالحلال لكى يسود بين الأفراد الأمن والأمان ، ولكى تبقى الحياة نقية من الهلع والجزع والجشع ، ولا يعكر صفوها كدر ولا ضغينة .
ومن أجل هذه الأهداف السامية حرمت الشريعة الإسلامية الربا ، قال تعالى : (وأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ( البقرة : 175 )
وحرّمت أكل أموال الناس بالباطل قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) ( النساء : 29 )
وحرّمت أكل مال اليتيم قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ( النساء : 10 ) وحرمّت الغش فقال ﷺ ( من غشنا فليس منا ) وحرّمت الاحتكار لما فيه من التضييق على عباد الله بقوله ﷺ ( لا يحتكر إلا خاطئ ) وقوله ﷺ( من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه )
وإنّ مما عمت به البلوى في بلادنا السودان ضيق سبل العيش وتفاقم الفقر والعوز بين عموم الخلق وصاحب ذلك ظهور شرائح من أرباب التجارات الذين سلكوا مسالك الجشع وأسهموا في غلاء الأسعار واحتكار السلع الضرورية بطريقة لا ترتضيها الشريعة الربانية ولا الأخلاق الإنسانية
وبناءً على ماسبق فهذا مبحث علمي قصير جمعت فيه خلاصة ماقاله فقهاء الإسلام حول مسألة الاحتكار لاحتياجات النّاس الضرورية ، عسى أن ينفع الله بها فتكون تنبيهاً لغافل أو تعليمًا لجاهل أو تذكيرًا لناسٍ وموعظةً لمغترٍ بمتاع الحياة الدُّنيا وزينتها
ماهو الاحتكار:
الاحتكار هو حبس ما يحتاج إليه الناس ، سواء مايحتاج إليه الناس ، كان طعاماً أو سلعةً ضروريةً تقوم عليها حياة الخلق في معاشهم ،مما يكون فى احتباسه إضرار بالناس ، مثل الأغذية والأدوية والثياب ومنافع الدور والأراضى ، كما يشمل منافع وخبرات العمال وأهل المهن والحرف والصناعات ، إذا كان الخلق يحتاجون ضرورةً إلى مثل تلك السلع والخدمات والمنافع.
وقد تعددت تعريفات الفقهاء لمفهوم الاحتكار المحرّم شرعاً
وخلاصة تعريفاتهم للاحتكار:
هو:(حبس مال أو منفعه أو عمل ، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد ، بسبب قلته ، أو انعدام وجوده فى مظانه ، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه )
وقد دلت أحاديث كثيرة فى السنة النبوية على تحريم الاحتكار ومنها :
1/ ما روي عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي أن النبى ﷺ: ( لا يحتكر إلا خاطئ )رواه مسلم
2/ماروي عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : ( من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين فهو خاطئ)
قال الشوكاني رحمه الله:
: (والتصريح بأن المحتكر خاطئ كافٍ في إفادة عدم الجواز لأن الخاطئ المذنب العاصي)
3/ ما رواه ابن عمر رضى الله عنه أن النبى ﷺ قال : ( من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه ، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله ) رواه أحمد
4/ عن عمر – رضي الله عنه – ، عن النبي – ﷺ- قال : ” الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ” . رواه ابن ماجه ، والدارمي .
5/ما روي عن الحسن قال ثقل معقل بن يسار فدخل إليه عبيد الله بن زياد يعوده فقال هل تعلم يا معقل أني سفكت دما قال ما علمت قال هل تعلم أني دخلت في شيء من أسعار المسلمين قال ما علمت قال أجلسوني ثم قال اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئا لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ولا مرتين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم فإن حقا على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة قال أأنت سمعته من رسول الله ﷺ قال نعم غير مرة ولا مرتين) رواه أحمد في المسند أول مسند البصريين
6/ ما رواه عمر رضى الله عنه أن النبى ﷺ قال : ( من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس ) رواه ابن ماجة .
حكم الاحتكار:
اتفق جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم علىٰ حرمة الاحتكار؛ لما فيه من تضييق علىٰ عباد الله مستدلين بما سبق من الأحاديث :
قال الإمام الشوكانى رحمة الله : ولا شك أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها للاستدلال على عدم جواز الاحتكار.
والحكمة في تحريم الاحتكار كما قرر فقهاء الشريعة هي :رفع الضرر عن عامة الناس؛ ولذلك فقد أجمع العلماء علىٰ أنه لو احتكر إنسان شيئًا واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره أُجبر علىٰ بيعه، دفعًا لضرر الناس، وتعاونًا علىٰ حصول العيش، قال الإمام النووي رحمه الله: “قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء علىٰ أنه لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أُجبر على بيعه دفعًا لضرر الناس، وتعاونًا علىٰ حصول العيش
وبناءً على ماسبق فإنً الشريعة الإسلامية تُحرّم مايقوم به بعض النّاس من شراء الغذاء والدواء والوقود بأنواعه، ونحو ذلك من السلع الضرورية التي تقوم عليها مصالح الخلق في معيشتهم اليومية وحبسها واحتكارها ورفع أسعارها.
والله تعالى أعلم
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس


