تقاريرتقاريرسياسة

المبادرة الأممية تدويل للأزمة السودانية أم مخرج ؟!

الطابية/ تقرير: منال صديق

بترحيب دولي وتوجس في الداخل، أعلن رئيس البعثة الأممية في السودان فولكر بريتس، في الثامن من يناير الجاري، إطلاق عملية سياسية بين الأطراف السودانية من أجل الاتفاق على مخرج من الأزمة السياسية الحالية، وقد تباينت ردود الأفعال بشأن تلك المبادرة، ورغما عن خروج المبعوث الأممي، في مؤتمر صحفي متحدثا عن تفاصيل تلك المبادرة بقوله إن “الأمم المتحدة ستقدم عملية وليس مسودة أو مشروعا أو رؤية للحل”، إلا أن المبادرة، ماتزال تثير جدلاَ وتوجساَ من عدة أطراف في الداخل السوداني.
وفي الوقت الذي حظيت فيه المبادرة الأممية بترحيب دولي وإقليمي، إذ رحبت بها كل من الولايات المتحدة، وقطر، والسعودية، ومصر، إضافة إلى جامعة الدول العربية ومجلس السيادة السوداني.. إلا أن المكتب التنفيذي لقوي الحرية والتغيير أعلن رفضه للمبادرة. إلى ذلك رحبت قيادة مسار شرق السودان بالمبادرة، كما رحب حزب الأمة بها، في الوقت الذي رفضها الحزب الشيوعي.
مهما كان مسمي المبادرة التي تقودها الأمم المتحدة في السودان، فهي في النهاية تعني التدويل!!.. وقد عرفت المنطقة العربية أنواعا كثيرة ومظاهر عدة من التدويل لقضاياها ومشاكلها الداخلية، والسودان ليس استثناءا.. ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها تدويل قضية داخلية.. فتدويل القضايا المحلية..
ويرى كثير من المراقبين للشأن السوداني أن التدويل ليس كله شراَ وليس كله خيراً، حيث رأوا بضرورة عدم التسرع برفض المبادرة، فقط يجب التحقق من مدى توافقها مع الثوابت الوطنية العليا. وإلى ذلك أشار الدكتور محمد خليفة صديق، الباحث الأكاديمي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة إفريقيا العالمية، الذي قال “إن تدويل قضايا الداخل السوداني ليست جديدة، فالسودان عرف حالة من التدويل الكبير لقضاياه كثيراً، منذ توقيع الوثيقة الدستورية التي تمت بوساطة دولية ضمت الرئيس الإثيوبي أبي أحمد ومبعوث الاتحاد الإفريقي محمد الحسن ولد لبّاد، ثم بعد ذلك ظل الخارج حاضراً في الشأن السوداني بشكل كبير، وقد استقدم الدكتور عبد الله حمدوك البعثة الأممية المعروفة باسم يونيتامس، التي فيها إشارة إلى انتهاك كبيرة للسيادة السودانية، وفيها إشارة مبطنة إلى “عجز السودانين عن إدارة شأنهم الخاص”، وذلك لكون البعثة مهمتها المساعدة في إدارة الفترة الانتقالية بصورة أفضل والوصول لانتخابات، ولكن العجز الداخلي وحالة الاحتقان والاحتراب والتشاكس بين القوى الساسية هو الذي سمح للبعثة الأممية أن تتدخل وتحشر أنفها في الشأن السوداني، ولولا عجز النخبة السياسية الموجودة الآن في السلطة أو المعارضة عن الوصول لحل الأزمة مقبول للجميع، هو من مهد الطريق للبعثة للتدخُّل وفرض وجودها وإطلاق مبادرات!!.. حالة العجز الحاصلة وتجميد الأوضاع في الفترة الانتقالية، وسوء أوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أوجد الحاجة للمبادرة وقبول أي حل حتى ولو كان من البعثة الأممية أو اي جهة أخرى..إضافة إلى ذلك فقد تعوّد السودانين، تاريخياً، على أن تحل مشاكلهم من الخارج، منذ اتفاقية أديس أبابا 1972 لحل مشكلة الجنوب، ثم بعد ذلك اتفاقية مشاكوس ونيفاشا، واتفاقية أبوجا، واتفاقية الدوحة، كلها اتفاقيات تمت بعواصم أجنبية دارات فيها مفاوضات بشأن قضايا سودانية.. لذلك فالأجنبي دائما حاضر في الشأن السودان.

تقريب وتسهيل
ويعتقد الباحث الاكاديمي أن مبادرة البعثة الأممية يمكن أن تكون مقبولة للقوى السياسية لأنها تأتي من جهة إلى حد ما أقرب إلى الحياد، لأنها بعيدة عن الصراع السوداني.. ورهن خليفة نجاح المبادرة في حالة وقوفها عند دور المسهِّل والمقرِّب لوجهات النظر.. لكن إن حاولت أن تُدخل أجندة الخارج أو حاولت أن تضغط على الأطراف بأي شكل من الأشكال، او تنتهك السيادة الوطنية أو تتدخل في الشؤون الداخلية، كما يحدث الآن من بعض السفراء الذين يزورن بعض الجهات مثل السفيرة التي زرات المستشفيات وصرحت بأنه على الحكومة أن تفعل كذا والتصريحات التي تاتي من المبعوث بتوجيه الشرطة أن تفعل كذا أو كذا، هذا من باب حشر الأنف في الشأن الداخلي، وعلى الخارجية السودانية أن تحذر هؤلاء السفراء والمبعوث نفسه من التدخل في الشأن السوداني وأن يعرف حدود مهمته، وكل سفير يجب أن يعرف حدود مهمته وحدود تفويضه حتى لايتدخل في الشأن السوداني، وهذا أمر يتوقف على وجود حكومة قوية، ومن الممكن أن يصل إلى مرحلة طرد هؤلاء السفراء، أو طرد المبعوث نفسه، فالأمر ليس بغريب على السودان فقد حدث من قبل أن طُرد المبعوث الأممي يانك برونك، الذي كان رئيساً لبعثة اليوناميس في السودان عقب أزمة دارفور، وكان هذا الأمر مشهوراً ومعروفاً، حيث تم طرده عندما حاول أن يتدخل في الشأن الداخلي وتجاوز مهمته.
وطالب الدكتور خليفه السيد فولكر بضرورة أن يكون واعيا ومدركا لحدود هذا الدور ويجب أن لايتمادى لأنه وقتها يمكن أن يتم طرده، فالمطلوب الآن إيجاد حالة من التوافق وحالة من تقريب وجهات النظر وحالة من الاحتكام لصوت العقل، ويجب أن يدرك السودانيون أن بلادهم على حافة الهاوية إذا ما استمرو في صراعاتهم، لأن التشاكس يمكن أن يضيع البلد، وقد يصبح عليهم الصباح ولايجدوا بلدهم، فالحل يمكن أن يكون من هنا أو هنالك، وصوت الحق وصوت العقل يجب أن نقبله من أي جهة كانت، وليكن الفيصل هو؛ إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الحل أو ذاك ناجعاً للأزمة.

إعادة إنتاج النموذج الليبي:
شهدت المنطقة العربية مظاهر عدة من التدويل لقضاياها، وفي السودان سبق وأن تسببت أطراف الصراع فيه باتسجلاب التدخل الدولي؛ منذ قضية الجنوب، ودارفوار، وما بعدها، والآن الأزمة السياسية التي صاحبت الفترة الانتقالية، حيث يعتقد الأستاذ وائل علي الكاتب الصجفي والمحلل السياسي، أن المبادرة الأممية لم تاتِ من فراغ، فهي تخطيط مسبق من المجتمع الدولي لاحتواء آثار انقلاب 25 أكتوبر وتوجيه الانقلاب لمصالح المجتمع الدولي في السودان، ورأي أنها ليست بالمبادرة، لأنها إن كانت كذلك لابد أن يكون على حياد وليس منحازاً لطرف دون الآخر، وما يحدث عبارة عن طلبات يقدمها المجتمع الدولي ويريد من الطرف الآخر الأذعان إليه، فهي خطة من المجتمع الدولي، ومنها نعرف لماذا جاءت استقالة حمدوك؟!.. ولماذا وافق على اتفاق 21 نوفمبر؟!.. ولماذا استقال؟!.. وأضاف وائل في تصريحه للطابية أن الأمر تم بتخطيط مسبق، الاستقالة ثم الرجوع عنها باتفاق 21 نوفمبر حتى يمنع المضي في قرارات 25 أكتوبر، وحتى يفرغ تلك القرارت من مضمونها.. وبعدها استقالته بغرض إعطاء مبرر لتدخل المجتمع الدولي وتقديم مبادرة دولية!!.. فهذا يعكس خبايا كيف تدار أوراق اللعبة الدولية!!,, ووصف وائل المبادرة بأنها محاولة لإعادة إنتاج النموذج الليبي تحديداً، وليس أي نموذج عربي آخر.. لأن بالنموذج اللبيبي اختارات الأمم المتحدة رئيس الوزراء فائز السراج، ووكذلك اختارت أيضا ريئس الوزراء عبد الحميد الدبيبة..فالأمم المتحدة كثيراً ما تأتي بمجموعة من الأشخاص تقول إنهم يمثلون الشعب الليبي؟!! تجمعهم مرة في مالطة، ومرة في الصفيرات بالمغرب، ومرة في مصر، تقول خمسة زائد خمسة من الناس التي تختارهم الامم المتحدة، وهم من يضعون التصور للدولة الليبية، ومنذ 2012 لم تقم انتخابات في ليبيا منذ إلغاء انتخابات مجلس النواب لم تقم انتخابات!!.. فالشعب الليبي يتم تداوله؛ من حكومة “توافق” إلى حكومة “اتفاق” إلى حكومة “مؤقتة”!!..
ويضيف وائل أن المجتمع الدولي يعتمد على أحزاب سياسية هي أقرب للفطريات منها إلى كونها أحزاباً ذات جذور في داخل أرض السودان، وهو مدرك تماما أنه لن تكون هنالك انتخابات.. ولو حدثت حتى ولو بعد عشرين سنة، فلن تأتي بهذه القوة السياسية، لذلك يعمل المجتمع الدولي وبإجرءات صوتية على هندسة نظام تفرض فيه أفكار المجتمع الدولي دون حتى الحوجة إلى انتخابات، فهنالك خذلان لفكرة الانتخابات من المجتمع الدولي منذ 2014 !!.. في المنطقة لم تعد الانتخابات خياراً للمجتمع الدولي، بل أصبح خياره “حكومات مؤقتة انتقالية”..وإذا لم يستطع تطبيق نظام السيسي في مصر الذي يراعه المجتمع الدولي، لسيعمل على تطبيق النموذج الليبي، أو اليمني، أو السوري!!.. فهي لعبة دولية كبيرة جداً ولايوجد غيرها خيار، ولا اعتقد كما يقال بلغة الكوتشينة “دخلت وهي طرشة”!!.. أصبح الجميع في معركة صفرية واضحة، والمجتمع الدولي رمى بكل أوراقه!!.
ويعتقد وائل أن القوى السياسية المنضوية تحت تحالف قوى الحرية والتغيير، خصوصا الأحزاب الأربعة والحزب الشيوعي، عجلت بنهايتها في السياسية، فآخر ما يمكن أن تقدمه قدمته خلال التظاهرات، إضافة إلى أن المكوِّن العسكري لن يضحي بالجيش أو مصالحه الكبرى من أجل خمسة اأشخاص!!.. فأتوقع إذا ما استمر ضغط المجتمع الدولي على البرهان وحميدتي والمجلس العسكري الحالي، وكما استقال حمدوك من مجلس الوزراء حتى يخلق فراغاً سياسياً وفراغاً أمنياً، يمكن تحصل مفاجأة ويقدم البرهان وكل أعضاء المجلس السيادي استقالتهم ويخلقوا فراغاً من الجهة الأخرى، حتى يفتحوا الباب لمجلس عسكري جديد!!.. وهذا أكبر السيناريوهات التي يتوقع حدوثها!!.. فإذا ما تم إغلاق الباب على البرهان والعسكريين الخمسة، سيرجعو لموسستهم ويستقيلوا بمحض إرادتهم، لأنهم لن يضحوا بمصلحة موسساتهم من أجل أحزاب الحرية والتغير!!.. وبعد ذلك يأتي مجلس عسكري من ضباط آخرين، والسيناريو الذي يضعه المجتمع الدولي، والذي طبقه على نظام البشير، لن يستطيع تطبيقه على نظام المجلس العسكري الحالي، لأن هؤلاء لا ينطلقون من مصلحة ذواتهم، بل من مصلحة موسستهم التي ليس للفرد بها أي تاثير، في النهاية مصلحة المجموعة مقدمة على مصلحة الفرد.
وتوقع الاستاذ وائل تقديم المجلس السيادي استقالته وبعدها تحل السلطة الانتقالية تلقائيا، وبذلك تسقط الوثيقة الدستورية، ووقتها لن تكون هنالك قيمة لوثيقة دستورية أو لأي شي لأنها أصلا قائمة على المكون المدني والعسكري، مادام المكون المدني مختفي والمكون العسكري استقال، أصبح هناك فراغ، والفراغ يمكن أن تملأه أي قوة أخرى، ليس بالضرورة من جهة عسكرية، يمكن أن تملأه بالأمر الواقع ويحصل تفويض من العسكرين الموجودين في المجلس السيادي من القوات المسلحة.

مبادرة سودانية:
من جانبه يرى الأستاذ مصطفى أبو العزائم، الكاتب الصحفي والمحلل السياسي، عدم وجود مبادرة أممية في الوقت الراهن.. وكل ما ورد في الأسافير من تفاصيل غيرصحيح، وإنما ما يجري هو تمرير مبادرة سودانية سودانية لكل الأطراف، وعودة اللجنة السودانية برئاسة مالك عقار رئيس وعضو مجلس السيادة الانتقالي وتضم معه سياسيين مستقلين، لجمع الفرقاء وعمل وثيقة وفاق ستقوم بإدارة الحوار بدعم دولي!!.. معتبراً ما طرحه فولكر أصلا كان متفقا عليه مع حمدوك، وهو جزء أساسي من الإعلان السياسي الموقع في نوفمبرالماضي بين البرهان وحمدوك، إلّا أن الأخير لم يستطع تنفيذه واستقال!!.. ولذلك تلقفه المجتمع الدولي.
وتوقع أبوالعزائم تشكيل حكومة تصريف أعمال خلال أيام قليلة لأن البلد مكشوفة في الوقت الحاضر أمنياً وإدارياً، حتى تكتمل أجتماعات الوفاق السياسي، الذي سيمضي إلى تعديل الوثيقة الدستورية بما يفضي لإعطاء كامل السلطة لمجلس وزراء من الخبراء المستقلين وتكملة هياكل الفترة الانتقالية، بغياب المشاركة الحزبية في الحكومة أو المفوضيات أو المجلس التشريعي, وقلَّل أبو العزائم من فرصة عودة حمدوك للمشهد مرة آخرى، مؤكداً أنه لن تكون هنالك أي فرصة لعودة حمدوك ولا لأيٍّ من السياسيين لأي منصب!.

خلاصة
مما سبق تأكد بأن هذه المبادرة، رغم كونها تدويلاً واضحاً للشان السوداني، إلا أن سياقات تدل على أنها قد تصبح في حكم الواقع بسبب فشل الأطراف السودانية في تقديم مبادرات وطنية لحل الأزمة السودانية، ومع وجود إرث سابق في تدويل القضايا السودانية والتدخلات الخارجية في الشأن السوداني، فإن هذا ربما يعضض انزلاق الأطراف الفاعلة في التعاطي معها.. ينظر إليها بافتراض حسن النية، ويرى أنها ليست مبادرة أممية، ورعاية دولية لمبادرات سودانية، فيما ينظر إليها البعض الآخر على يمكن أن تقدم حلاً لحالة الفشل السياسي بشرط أن يقصر على دور المسهّل والمقرب لوجهات النظر بين الأطراف السودانية، دون أن يتعدى ذلك لفرض أجندة خارجية..فيما يذهب رأي آخر إلى أنها لا تعدوا أن تكون تخطيطاً ممنهجاً من المجتمع الدولي لإعادة إنتاج نماذج أخرى طُبقت في دول أخرى أبرزها النموذج الليبي، بما يتيح تنفيذ رؤية المجتمع الدولي الخاصة بالسودان..
وأخيراً فإن الجميع يتطلّع إلى حل يكشف ظلمات الأزمة السودانية، ويجنّب البلاد خطر الانجرار إلى حالة “فشل دولة” والانزلاق في صدامات داخلية بحدوث فوضى، أو حرب أهلية، لا أحد يعلم إلى أين ستنتهي، كما يجنّبه مغبة الدخول مواجهة دولية يمكن أن تتطور إلى خناق خارجي آخر.

 

صوّت بـ “لا” أو “نعم”

عفواُ انتهى الوقت المحدد للتصويت.

البعض اعتبرها تدخلاً سافراً..هل تعتقد أن المبادرة الأممية يمكن أن تشكل حلاً للأزمة السياسية في السودان؟
78 اصوات · 78 اجوبة
صوت
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى