عمر عبد الله الهاشمي
بعد تجاوز الكلام الكثير في الفرق بين الدولة المدنية وبين الحكومة المدنية، ومعرفة كثير من الناس أن الدولة المدنية هي العلمانية، وأن الحكومة المدنية هي الخالية من سلطان العسكر.. صارت الهتافات مدنياااا أو عسكرياااا.
وحصر مشكلة السودان في مدنية وعسكرية، هو تسطيح لعقول الجموع من الناس واختزال للمشكلة في أمر خارج عنها.. وهي طريقة عبثية في الإسقاط استفزازا لنفوس العامة وتهييجا لمشاعرهم عبر ربط المتناقضات ببعضها، وإيهامهم أن الخلاص منحصر في طريقة معينة رسموها لهم ولم يتركوا لهم خياراً آخر وهي طريقة الحصار الفكري لشل العقول عن التفكير في المخرج الصحيح.
الشيطنة تمارس على كلا المستويين؛ شيطنة المدنيين وشيطنة العسكريين..إيهام الناس أن العسكريين كلهم لا خير فيهم ولا يصلحون للحكم، في حين أنهم يتغنون بحكم سوار الذهب وهو عسكري! ويتغنون بحكم النميري وهو عسكري! إنه العقل الجمعي الذي يجمع بين المتناقضات ويقود الجموع إلى اللاشيء.
وبالمقابل يحاول البعض إيهام الناس أن المدنيين كلهم أصحاب أغراض حزبية ومنافع شخصية، ونظرة جهوية وربما قبلية عرقية؛ في حين أنهم يتغنون بحكم مهاتير محمد وهو مدني!
والحقيقة أن العسكر هم من المجتمع، فيهم الخير والشر، وفيهم الصالح والطالح؛ كما أن المدنيين فيهم الخير والشر وفيهم الصالح والطالح.. وكل هذا لا علاقة له بمن سيحكم.
فالحاصل أن حالة من الاستقطاب والانقسام بين المدنية والعسكرية ستعقبها حالة استقطاب وانقسام أضخم بكثير بين المدنيين أنفسهم وبين الأحزاب السياسية المتصارعة على الحكم.
والمخرج من هذه الفتنة وهذه الحالة الانقسامية هو توحيد المرجعية.. وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أن بوابة الفشل هو التنازع والاختلاف..فقال سبحانه وتعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).. وقد بين الله تعالى في كتابه المخرج عند عند التنازع والاختلاف فقال في أول الآية السابقة (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)، وقال سبحانه مبيناً المرجعية (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، فإن لله تعالى أوامر وأحكام تتعلق بالدولة وباختيار الرئيس وبمادة الحكم وأحكام القضاء وغير ذلك من أمور الدولة والحكم والرئاسة والسياسة.. بل عاب الله على العباد إذاعة هذه الأمور المتعلقة بأمن الأمة وخوفها؛ واستنكر عليهم جعل هذه المسائل حديث المجالس يتكلم فيها من شاء بما شاء فيتسع الخلاف ويقع الفشل.
وقد بين الله سبحانه المخرج في مثل هذه الأحوال فقال سبحانه وتعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)
قال الطبري رحمه الله “(أذاعوا به”: ﺃﻓﺸﻮﻩ ﻭﺑﺜﻮﻩ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﺒﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ” وقال قتادة: سارعوا به وأفشوه. وقال السدي: ﺃﺫاﻋﻮا ﺑﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻎ ﻋﺪﻭﻫﻢ ﺃﻣﺮﻫﻢ. وقال ابن عباس: أعلنوه وأفشوه. وقال ابن زيد: نشروه.
والمخرج قوله تعالى (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).. قال ﻗﺘﺎﺩﺓ:”ﻭﻟﻮ ﺭﺩﻭﻩ ﺇﻟﻰ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻭﺇﻟﻰ ﺃﻭﻟﻲ اﻷﻣﺮ ﻣﻨﻬﻢ”، ﻳﻘﻮﻝ: ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻤﺎﺋﻬﻢ = (ﻟﻌﻠﻤﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﻨﺒﻄﻮﻧﻪ ﻣﻨﻬﻢ) ، ﻟﻌﻠﻤﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻔﺤﺼﻮﻥ ﻋﻨﻪ ﻭﻳﻬﻤﻬﻢ ﺫﻟﻚ.
وقال ابن جريج: (أولي الأمر) أولي اﻟﻔﻘﻪ ﻓﻲ اﻟﺪﻳﻦ ﻭاﻟﻌﻘﻞ.
وقال البغوي: (ﺃﻭﻟﻲ اﻷﻣﺮ ﻣﻨﻬﻢ): ﺃﻱ: ﺫﻭﻱ اﻟﺮﺃﻱ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﻣﺜﻞ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﻭﻋﻤﺮﻭ ﻭﻋﺜﻤﺎﻥ ﻭﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ، {ﻟﻌﻠﻤﻪ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﻨﺒﻄﻮﻧﻪ ﻣﻨﻬﻢ} ﺃﻱ: ﻳﺴﺘﺨﺮﺟﻮﻧﻪ ﻭﻫﻢ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﺃﻱ: ﻋﻠﻤﻮا ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﺘﻢ ﻭﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻳﻔﺸﻰ، ﻭاﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻁ: اﻻﺳﺘﺨﺮاﺝ.
وقال الله تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وهذه أصرح آية في وجوب رجوع الناس إلى علمائهم ليعرفوا حكم الله تعالى في كل شيء صغير أم كبير.
وإن الأجدر بقيادة المرحلة الانتقالية وما بعدها هم علماء الأمة لأنهم يعرفون حكم الله وشرعه وكيف يطبقونه ويعملون به في السياسة والقضاء والاقتصاد والسلم والحرب وغير ذلك.
فهذا حكم العليم الحكيم الخبير وتوجيهه لعباده لأن يسلموا الأمر إلى علماء الأمة وفقهاء الملة. فإن استجابوا لأمر الله ورضوا بحكم الله جاءتهم الخيرات والبركات وعم الأمن والأمان.
وأما ما يفعله أعداء الشرع من شيطنة العلماء وشيطنة الإسلاميين كلهم حتى الذين كانوا يعارضون النظام السابق فإنها جزء من خطة العقل الجمعي لقيادة الجموع والتشكيك في كل شيء حتى في العلماء والعياذ بالله ليخلو لهم الجو ولينفردوا بتوجيه الجموع بعد ذلك وفقا لما يريدون.
ووجدنا هذه الطريقة واضحة بينة في قيادة الناس بهذا الأسلوب الممنهج في الشيطنة والإسقاط لدرجة التناقض؛ ولما تقدم المجلس العسكري في أول الانحياز بخطته لفترة انتقالية مدتها سنتان قال الكثيرون لماذا سنتان؟ ماذا يريدون أن يفعلوا؟!.. فلما قالت قوى الحرية والتغيير نريد أربع سنوات لتطهير الدولة من النظام السابق، قبل عامة الناس ذلك بطريقة العقل الجمعي..ثم قامت بعض الجهات بشيطنة اعتصام القيادة بطريقة العقل الجمعي أيضا.
طريقة العقل الجمعي التي تقود الجموع نحو هدف مفتعل ينشغلون به عن حدث أهم وأكبر يراد صرفهم عنه بهذا الأسلوب.. وهو نوع معروف ويدرس لأجل التلاعب بعقلية الجموع عبر سوقهم بطريقة القطيع.. فالقضية العظمى والكبرى هل ستحكم البلاد وتقاد بشرع الله تعالى أم بغيره.
وهذا هو المخرج للحالة السودانية من انقسامها وتخبطها وحيرتها.. فإن الناس أهواؤهم شتى؛ والأحزاب أجنداتهم وأهدافهم مختلفة ومتنافرة ولا يرضى حزب بالآخر منهم.. ولن يستطيع الناس إرضاء الأحزاب كلها، كما أن الأحزاب كلها لن تستطيع إرضاء الناس كلهم، ولا يقبل أحد وصاية حزبية عليه ولا يقبل رأي غيره أن يفرض عليه، وستعجز الدولة وتفشل وهي تتلقى الأوامر المتناقضة المتعارضة في وقت واحد.
ولن نستطيع أحد إرضاء طموحات الأحزاب السياسية لأن لكل واحدة منها منهجا وبرنامجا للحكم يخالف الآخر.؟ وكلهم برامجهم مخالفة لشرع الله تعالى.
والمنهاج الذي يجمع الناس ويوحد صفهم ويقضي على حالة الانقسام التي بينهم هو حبل الله المتين وكتابه الكريم وشرعه القويم كما قال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) فالناس لا يقبل الواحد منهم رأي غيره أن يفرض عليه؛ وأما شرع الله فإنه فوق الجميع لأنه من الخالق تعالى فتطمئن النفوس لحكمه وترضى بشرعه.
وقد ضرب الله تعالى المثل لعباده في قضية تلقي الأوامر والتوجيهات والتعليمات فضرب مثلا برجلين يمثلون في الحقيقة الأمة التائهة بين مناهج شتى وفرقاء مختصمون بين علمانية رأس مالية وشيوعية اشتراكية وقومية ناصرية وبعثية ملحدة وغيرها من المناهج الأرضية؛ أحد الرجلين مملوك لشركاء متشاكسون مختلفون وهذا الرجل ضائع بينهم تائه بينهم عاجز عن إرضائهم جميعا فملاكه متشاكسون أحدهم يأمره بالوقوف والآخر يأمره بالقعود في نفس الوقت؛ أحدهم يأمره بالذهب والآخر يأمره بالبقاء؛ أحدهم يأمره أن يفعل شيئا والآخر يأمره في نفس الوقت أن يفعل شيئا آخر. ورجل آخر مالكه واحد فقط يعرف كيف يرضيه وماذا يحب فيأتيه وماذا يكره فيتركه ويستطيع طاعته بكل سهولة ويسر.
قال تعالى (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).