دولة مدنية أم دولة دينية ؟ .. بقلم : د محمد عبدالله كوكو

مصيبتنا دائما تأتي من أنصاف المثقفين والنشطاء السياسيين الذين يرددون مصطلحات من غير إدراك لمعناها..فالذين يقولون نريدها دولة مدنية هم يظنون أن الدولة المدنية لا مكان للدين فيها ويجب ألا يستمد الدستور من الشريعة الاسلامية وهذا فهم خاطئ.
وعلى النقيض الذين يقولون نريدها دولة دينية يقصدون دولة تحكم بالشريعة الإسلامية وهذا أيضا خطأ في فهم مصطلح الدولة الدينية.
إن كِلا الطرفين أخطأ في التعامل مع هذه المصطلحات (دولة دينية، دولة مدنية). فمصطلح الدولة الدينية لا يخص المسلمين ولا بلادهم ولا تاريخهم في شيء؛ بل نشأ هذا المصطلح في القرون الوسطى في أوروبا أثناء حكم الكنيسة للشعوب، فكان الحكم آنذاك حكماً بمنطق الحق الإلهي، فسلطة البابا مستمدة من الربّ مباشرة وموقعه يعني أنه نائب المسيح على الأرض أي أنه يُمثِّل إرادة الربّ على الأرض، ومن هنا فلا مجال لمخالفته أو معارضته.
ويُذكر أن الإمبراطور هنري الرابع اختلف مع البابا جريجور السابع فما كان من البابا إلا أن سحب منه صك الغفران (ألقى عليه الحرمان الكنسي)، فخاف الإمبراطور هنري من خلعه نتيجة لهذا وذهب حافياً على قدميه في البرد إلى البابا ووقف على قلعة كونسا – وكان فيها البابا منذ فترة- ووقف ثلاثة أيام قبل أن يسمح له بالدخول، ثم دخل وارتمى على قدميّ البابا ليطلب منه العفو والسماح، وتم له ما أراد بعد شروط ووعود بالخضوع التام للبابوية في كل شيء.
إلى أن قامت حركة مارتن لوثر وثارت على سلطة الكنيسة وعلى كثير من المعتقدات الخرافية وأسس للمذهب البروتستانتي وتداعت سلطة الكنيسة، ومع الوقت انتهت سلطتها على معظم أوروبا. وبدأ عهدٌ جديد لا سلطة فيه للكنيسة على الدولة؛ بل أصبحت خاضعة لقوانين الدولة التي لا تستند لأي نصوص من الكتاب المقدس أو لسلطة دينية، وبدأ عصر جديد في أوروبا نهضت فيه علمياً وصناعياً، ومن هنا نشأ مصطلح الدولة المدنية والدولة الدينية، وبهذا أصبح الاثنان ضدان يتنافران إما الدولة الدينية أو الدولة المدنية.
ولكن السؤال هنا هو؛ ما علاقتنا نحن بكل هذا؟ فلا نحن في أوروبا، ولسنا نصارى ولم يكن لدينا يوماً حكماً يُماثِل حكم الكنيسة!.. لقد كانت الدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة؛ تقوم السلطة بها على البَيْعة والاختيار والشورى والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة -مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها- أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم، بل كل مواطن أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكرًا، أو ضيَّع معروفًا، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا أتى كُفْراً بواحاً أو خالف أيّاً من الثوابت المنصوص عليها شرعاً.
ويروى أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا الناس يوماً فصعد المنبر فقال: “يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو مِلتُ برأسي إلى الدنيا؟ إني لأخاف أن أُخطئ فلا يردني أحد منكم تعظيماً لي، إن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوموني”. فقال رجل: “والله يا أمير المؤمنين، لو رأيناك معوجاً لقومناك بسيوفنا”. عندها أجاب الخليفة والفرحة تغمر قلبه قائلاً: “رحمكم الله، والحمد لله الذي جعل فيكم من يُقوِّم عمر بسيفه”.
ومن أكثر ما يتشدّق به أنصاف المثقفين هو الدعوة لفصل السلطات في الدولة المدنية، السلطة التشريعية، السلطة القضائية، السلطة التنفيذية، ونسيَ هؤلاء ما ذكره التاريخ كثيراً كيف أن القاضي فلان استدعى أمير المؤمنين الذي يحكم قاراتٍ بحالها لأن أحد المواطنين له خصومة معه -وقد يكون على غير ملة الإسلام- ويحكم القاضي للخصم!.. تكرّر هذا المشهد كثيراً في التاريخ الإسلامي ولم نسمع مثله في أمة أخرى من الأمم.. وهكذا فإننا نجد أن الأمة تتعرّض للإجبار على الاختيار إما مدنية، على ما يعتقده أنصاف المثقفين، أو دينية، على ما يعتقده أيضاً أنصاف المثقفين. وهنا فإن فرض هذه المصطلحات على الأمة يستلزم معه وعي من دعاتها ومثقفيها، ودراية بكيفية الرد بحصافة وفهم للواقع مع عدم مخالفة الثوابت التي أجمعت عليها الأمة، ويجب أن يتولّى أهل الدراية والوعي من هذه الأمة شرح وتبسيط هذه القضية لكل الأطياف لرفع الالتباس الذي أوجده أنصاف المثقفين، حتى يفهم الجميع أن الدولة الإسلامية (دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية أو دولة إسلامية فقط أو أيّاً كانت المصطلحات والمُسمَّيات) تحكم بشرع الله ولم يتشابه حكمها يوماً بما كان في أوروبا ولم يكن فيها حكم بوجب الحق الإلهي ولم يقل الخليفة يوماً أنه ينوب الله في الأرض بل كانت الخلافة الإسلامية مثالاً يحتذى به كدولة للمؤسسات وفيها فصل للسلطات وقوة القضاء واستقلاله وكانت عبر التاريخ هي الملاذ الآمن لغير المسلمين وفي مقدمتهم اليهود.
يجب أن يفهم العالَم بأسره أننا لم نكن يوماً مجرّد ذيل في مؤخرة الأمم نحاول أن نطبق ما طبقه غيرنا ونقلِّد ثقافة غير ثقافتنا ونتسوّل سياسة غيرنا، نحن لنا شريعتنا ولنا ثقافتنا ولنا تاريخنا ورصيد حضارتنا يسمح لنا باستيعاب كل ما هو جديد على ألا يخالف ثوابتنا الشرعية



