كاتب ومقالمقالاتمقالات

والله يا كابول شرحك معناه يطول

حسن عبد الحميد

والله يا كابول
شرحك معناه يطول
يا سيفنا المسلول
في موطن العجم
هذا جزء من مقطوعة كان يترنم بها شباب الصحوة الإسلامية في أرجاء العالم الإسلامي في عقد الثمانينيات من القرن الماضي؛ عقد الجهاد ضد الغزو السوفيتي لأرض أفغانستان، وأبى المجاهدون الأفغان بفضل الله إلا أن يمرغوا أنف الدب الروسي في التراب؛ فخرج يجرجر أذيال الخيبة من أفغانستان تحت ضربات المجاهدين الأفغان؛ وإخوانهم من المتطوعين العرب وغيرهم.
وتأبى أفغانستان إلا أن تعيد الدرس لمن نسوا أو تناسوا؛ وهذه المرة مع القطب الآخر الذي ظن أنه قطب أوحد بعد انهيار امبراطورية الشر الشيوعية في الاتحاد السوفيتي؛ فحاولت الولايات المتحدة أن تجرب حظها مع مقاتلي طالبان، فدخلت هي وحلفاؤها وعملاؤها كابول في العام 2001م، في أعقاب ما ظنوه هزيمة لطالبان، وبعد عقدين من الثبات والقتال ضد القوات الباغية وحلفائها؛ ها هي الولايات المتحدة تسحب جندها وتلعق جراحها وتلتمس من مقاتلي طالبان ألا يتعقبوا جنودها المنسحبين، ومعظم الذين علّقوا على الدخول المظفر لقوات طالبان إلى كابول؛ أغفلوا الجانب الآخر من المعادلة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي مثّل دخول طالبان إلى كابول هزيمة لمشروعها، وإجهاضا لوعودها، ودحرا لعملائها وصنائعها بالمنطقة، وليت البقية يتعظون.
كابول؛ تحتاج لأكثر من شرح، وأكثر من حواشي على متن النصر المظفر لقوات طالبان ودخولها كابول دون إراقة دم واحدة؛ بعد أن تساقطت عواصم الولايات الأفغانية في أيديها كأوراق الخريف الجافة، أو كالثمار المعطوبة التي لم تعد ذات قيمة وفائدة.
من الدروس المهمة في المسألة الطالبانية الحالية؛ أن من يقرر مواجهة عدوه، ويحشد شعبه في مواجهة البغي والعدوان؛ ويواصل مواجهاته بعزم الرجال وإرادة الأبطال دون انكسار أو تراجع؛ فإن النصر سيكون حليفه في نهاية المطاف بإذن الله مهما تستر الطرف الآخر خلف سلاحه وحلفائه وعملائه، وأن الحق إذا تمسك أهله به ودافعوا عنه؛ فإن الباطل لا محالة زاهق أمامه؛ فإن الباطل بطبعه زهوق، هكذا أخبرنا القرآن الكريم.
درس آخر يطل برأسه لمن ألقى السمع وهو شهيد، يتمثل في أن من اختار التنكّر لقيم الشعوب المسلمة ومبادئها المستمدة من كتابها وسنة نبيها، والسير في ركاب الغازي الباغي؛ يكون قد اختار الطريق الهالك، والمعركة الخاسرة، فمنذ لدن كرزاي وإلى أشرف غني؛ كان واضحا لكل ذي عينين أن هؤلاء اختاروا الطريق الوعر الخاطئ، وأن الولايات المتحدة التي احتموا بها وتستروا وراءها لن تتمكن من حمايتهم، ولن تواصل القتال من أجلهم طالما أنهم ليست لهم جذور بعيدة في المجتمع المسلم الذي سيلفظ الدخلاء ويتمسك بمن يمثل قيمه وعقيدته، والرئيس الأفغاني أشرف غني لم ينتظر ليرتب الأمور خلفه؛ فعمد ـ كعادة معظم الطغاة ـ إلى ركوب طائرته ولاذ بالفرار.
درس آخر تقدمه طالبان لمن يريد السير في طريق العزة والفخار؛ يشير إلى أن طالبان لم تساوم ولم تتنكر لمبادئها ولم تنكسر أمام ما يظنه البعض الجبروت الأمريكي؛ فقد ظنت الولايات المتحدة أن حركة طالبان مثلها مثل بقية الحركات المسلحة في أنحاء العالم ممن تفاوض على مبادئها وتساوم في عقيدتها، ولكن الثبات الطالباني أذهل العدو قبل أن يسر الصديق، فقد حددوا بوصلتهم جيدا، واختاروا طريقهم بوضوح، ورضوا تقديم الشهداء والجرحى في سبيل إخراج الباغي من أرضهم، وتطهير الأرض الأفغانية من صنائعهم وأتباعهم، ومما يثلج الصدر صدور تصريحات من قادة طالبان فور دخولهم لكابول بأنهم ماضون في إنشاء إمارة إسلامية، ولا عزاء للجبناء.
مخاوف كثيرة تتعلق بمستقبل أفغانستان بعد انتصار طالبان، بعضها ينطلق من معسكر الخائرين والخائفين من صنائع الغرب وأتباع منهجه، وبعضها ينطلق من المشفقين الحادبين على مصلحة أفغانستان الحريصين على مسيرة الإمارة الإسلامية الثانية في ظل طالبان. أما مخاوف المتغربين وصنائع الغرب، فتكرر نفس الأسطوانة المشروخة التي ظلوا يرددونها منذ زمن ويطلقونها في وجه طالبان ومؤيديها، وتتلخص دعاواهم وصراخهم في أن طالبان ستضطهد المرأة والطفل، ولن تلتزم بحقوق الانسان ـ ولا ندري أين كانت حقوق الانسان هذه والولايات المتحدة تنتهكها جهارا نهارا في افغانستان وفي غيرها ـ والتداول السلمي للسلطة.. إلى غيرها مما ظلوا يرددونه دون حتى إبداع أو تجديد، والذين استمعوا إلى مستشارة المرأة في الحكومة الأفغانية السابقة وهي (تردح) أمام الفضائيات وتصرخ بأن طالبان لن تكرم المرأة والطفل ولن تلتزم بمعايير حقوق الانسان؛ يدرك مدى بؤس الخطاب المناهض لطالبان ومدى سطحيته وسذاجته، هذا الفريق طبعا ينطلق من المنطلقات الغربية والقيم الغربية المنافقة التي لا يتم الالتزام بها من الغربيين أنفسهم حينما يتعلق الأمر بالمسلمين أو بما يسمونه دول العالم الثالث، وهؤلاء يخاطبون سادتهم من الغربيين أكثر مما يخاطبون شعوبهم المسلمة، وإلا فإن هذه الاتهامات مردود عليها ببساطة إذا حددنا المرجعية الفكرية التي ينطلقون منها؛ فإذا كانت المرجعية إسلامية فإن الإسلام كرم المرأة واحترم حقوق الانسان، وطالبان تلتزم ديانة لا سياسة بالقيم الإسلامية، لكنهم يرددون هذه الترهات لإشاعة خطاب عام يساهم في تشويه صورة طالبان.
أما مخاوف المشفقين والحادبين ممن ينطلقون من معسكر القيم الإسلامية؛ فيتمنون أن تنجح طالبان في إقامة نظام يستوعب الشعب الأفغاني المسلم دون عزل ولا استعداء إلا لمن قرر حمل السلاح ومواجهة الإمارة الإسلامية، ولعل هؤلاء المشفقين يذكرون أن دخول طالبان كابول السابق في العام 1996م أعقبه إعلان طالبان عدم اعترافها بالفصائل الأفغانية التي قاتلت ضد الاتحاد السوفيتي، وعزلها جميعها عن المشاركة في السلطة آنذاك، ولعل ظروف تلك المرحلة، واجتهادات طالبان حينها أدت إلى هذا الخيار، لكن هذا الخيار ساهم في إنشاء تحالف الشمال ودخول كابول تحت مظلة القوات الأمريكية وهو خطأ فادح تورطت فيه معظم الفصائل الأفغانية حينها، ما عدا حكمتيار الذي ظل مناصبا العداء للوجود الأمريكي في أفغانستان، وعليه فإن الوضع الآن في أفغانستان لا يحتمل أي استقطابات، وواجب الوقت يقتضي استيعاب الجميع وفق مرجعيات واضحة منطلقة من عقيدة الأمة وقيمها، وعدم تكرار أخطاء الماضي، ولعل ما صدر من تصريحات لقادة طالبان حتى الآن يمضي في هذا الاتجاه.
أخيرا فإن المشفقين الحادبين على مصلحة الإسلام وطالبان يتخوفون من استخدام طالبان في حروب إقليمية تخدم الاستراتيجيات الأمريكية أكثر مما تخدم الشعب الأفغاني، ويشيرون في هذا الصدد إلى كل من إيران والصين، والمعروف أن أفغانستان جغرافيا تقع بين إيران والصين، وكلتاهما خصم للولايات المتحدة، وقد تلجأ بعض أجهزة المخابرات إلى إثارة لعبة الشيعة والسنة في أفغانستان كما أثاروها في العراق من أجل تحقيق هدفين أولهما إضعاف أفغانستان، وثانيهما توريطها في صراع مع إيران لإشغالهما معا وإضعافهما معا، وكل هذا يصب في مصلحة الاستراتيجيات الأمريكية دون مصلحة كل من أفغانستان وإيران، ولعل قادة طالبان يستوعبون جيدا المخططات الأمريكية ،ويعملون على إجهاضها سياسيا كما أسقطوها عسكريا، والغريب أنه في حين تدافع الدبلوماسيون الغربيون وعلى رأسهم الأمريكان والفرنسيين إلى الهروب من كابول؛ فإن روسيا قد ابقت على سفارتها مفتوحة في كابول، وهذا أمر له دلالاته العميقة، كما أن الصين سارعت إلى التصريح بأنها ترغب في إقامة علاقات طيبة مع طالبان، بعكس رئيس الوزراء البريطاني الذي سارع بعدم الاعتراف بطالبان ودعوة حلفائه لعدم الاعتراف بها.
الأيام القليلة القادمة سوف تحدد بشكل كبير مستقبل أفغانستان، وهذا رهين بعد توفيق الله بحكمة وحنكة قادة طالبان وقدرتهم على تجاوز المطبات والحواجز التي يسعى الكثيرون لإقامتها في طريقهم.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى