سياسةكاتب ومقالمقالات

مبادرة حمدوك جبّة الدرويش الملونة

حسن عبد الحميد
أطلق رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مبادرة يوم الثلاثاء الماضي الثاني والعشرين من يونيو 2021م، أطلق عليها اسم (الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال ـ الطريق إلى الأمام)، وعجّت المبادرة بعدة قضايا في حيز محدود، وبدت لي مثل جِبّة درويش ملونة، تحمل ألوانا كثيرة وزاهية، لكنها متداخلة وغير متناسقة، وعديمة الجدوى ولا تصلح للاستخدام.
وقبل أن نشرع في تحليل مبادرة رئيس الوزراء؛ فقد حفلت المبادرة بردود افعال كبيرة، وتداولتها الأسافير والوسائط ما بين مادح وقادح، وأنتجت ردود أفعال متباينة، نجتزئ منها ردود أفعال من داخل قوى الحرية والتغيير، ومن العسكريين، ومن بعض الكتاب الإسلاميين.
على مستوى الحرية و التغيير بادرت قوى نداء السودان بإعلان تجميد عضويتها في تحالف الحرية والتغيير، وذلك في نفس اليوم الذي أطلق فيه رئيس الوزراء مبادرته؛ إذ التأمت قوى نداء السودان بدار حزب الأمة القومي بأمدرمان يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من يونيو 2021م معلنة إعلان تجميد عضويتها بقوى الحرية والتغيير، وأصلا كان أكبر قوى نداء السودان المتمثل في حزب الأمة قد أعلن تجميد عضويته العام الماضي، ولحق به الآخرون الآن، وفي هذا رسالة قوية مفادها أن الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية أعلنت عن تفككها وتمزقها وأنها لم تعد مسئولة عن الحكومة الحالية.
على نفس صعيد قوى الحرية والتغيير كان أسرع أحزاب اليسار إفاقة وردود فعل حزب البعث العربي، الذي قام بإصدار بيان في اليوم التالي لإعلان مبادرة رئيس الوزراء، فقد صدر بيان بتوقيع حزب البعث يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يونيو 2021م، وبدا الحزب حزينا واحتوى صدر البيان عن تعبير عن هذا الحزن بقوله ( إنه ليحزننا أن السيد رئيس الوزراء تخلى طوعا عن مسئولياته لجهات أخرى)، وبعد إعلان الحزن، بادر الحزب بالهجوم على رئيس الوزراء معلنا ( أن مبادرة رئيس الوزراء هي اعتراف بالفشل في إدارة ملفات الفترة الانتقالية)، ثم أعلن الحزب مخاوفه مباشرة من المبادرة على مستقبله الحاضنة القديمة (الحرية والتغيير)، فقد استشعر الحزب أن المبادرة ( تذهب مباشرة لتخليق حاضنة جديدة)، وهو ما يخشاه اليساريون وعلى رأسهم حزب البعث، لأن ذلك مؤذن بانتهاء حقبة سياسية كاملة كانوا يسيطرون فيها فعليا على زمام الأمور في الدولة، ويبلغ غضب حزب البعث مداه حين يعلن صراحة ( مع احترامنا للسيد رئيس الوزراء فإنه إجرائيا ليس مؤهلا لحل أزمة هو جزء منها) وهكذا دق الحزب إسفينا بينه ورئيس الوزراء، مما يعني أنه لن يكون طرفا في تسوية قادمة إذا كان هذا هو رأيه في رئيس الوزراء الحالي؛ اللهم إلا إذا كان حمدوك سيذهب ويخلفه آخر.
على صعيد الكتاب الإسلاميين؛ فإن أبرزهم وهو إسحق فضل الله تناول يراعه وخط يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يونيو 2021م مقالا متفائلا بمبادرة حمدوك، وذهب في نفس الاتجاه الذي ذهب إليه حزب البعث في بيانه،وخلص إلى استبدال الحاضنة اليسارية السابقة بأخرى في المرحلة القادمة، مبررا ذلك بأن (أمريكا ومصر وأوروبا كلهم لا يطيقون اللون الأحمر) ثم ذهب متفائلا ووصف حمدوك كمن ألقى عبئا ثقيلا عن ظهره بمبادرته تلك (وحمدوك الذي يبدو وكأنه ألقى حملا ثقيلا عن ظهره يتمطى ويكتفي بعشر دقائق).
على صعيد العسكريين، فقد سارع رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول برهان إلى عقد تنوير للضباط في اليوم التالي لإعلان المبادرة الأربعاء الثالث والعشرين من يونيو 2021م يرافقه نائبه الفريق حميدتي، وأعلن البرهان في التنوير أن الجيش والدعم السريع أكثر تماسكا ويعملون بقلب رجل واحد، وأضاف لن نسمح أبدا لطرف ثالث يعمل على بث الشائعات وزرع الفتن بين القوات المسلحة والدعم السريع، ومضى حميدتي ينسج على نفس المنوال داعيا إلى القضاء على الشائعات في مهدها التي تستهدف تماسك القوات المسلحة والدعم السريع، مذكرا أن القوات المسلحة والدعم السريع يمثلان قوة واحدة تتبع للقائد العام للجيش وتأتمر بأمره. والتحذير هنا واضح؛ مفاده: أيها المدنيون احذروا من الاقتراب من الجيش، فها هنا ممنوع الاقتراب والتصوير.
نأتي لمبادرة رئيس الوزراء، والذي يطالع المبادرة يأتيه خاطر بأن هذه المبادرة تمت كتابتها على يد مركز للدراسات لا علاقة له مباشرة بما يجري في السودان، فقد كتبت بروح أكاديمي مراقب للأحداث ومحلل لها، لا بروح رئيس للوزراء في يده كل السلطات التنفيذية؛ ثم هو يقترح على الآخرين ما يجب أن يقوم به، وما هو من صميم عمله.
أول ما يواجهنا في المبادرة، المقدمة المعهودة و المكررة التي تتحدث عن وطأة الماضي الثقيلة؛ ثم تبيان لمظاهر الأزمة، والتي لخصتها المبادرة في: الوضع الاقتصادي، والترتيبات الأمنية، والعدالة والسيادة الوطنية، والعلاقات الخارجية، واستكمال السلام، وتعدد مراكز القرار وتضاربها، والوضع الأمني، والتوترات الاجتماعية، والفساد، وتعثر إزالة التمكين، وبناء المؤسسات، ثم لم تنس المبادرة أن تذكّر أن كل ذلك يأتي على خلفية الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية، وعدم وجود مركز موحد للقرار، وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال!!!
بعد عامين من التفويض الشعبي والحكم المتواصل؛ يأتي السيد رئيس الوزراء ليشتكي من أمراض وأعراض لم يكن يخطر على بالنا أنها كامنة في الدولة،وأصبح حالنا كمثل الرجل الذي جاء يقدم شكوى إلى المحكمة، فتلقفه أحد (العرضحالجية) ودبّج له كلامه بأسلوب بليغ، فبكى الرجل صاحب الشكوى وقال إنا مظلوم للدرجة دي؟ ثم لم يخبرنا رئيس الوزراء بالذي فعله ليقضي على كل هذه المآسي التي صاحبت فترة حكمه، وإذا كانت فترته تعاني من كل هذا، فما السبب الذي يجعله يردد على مسامعنا في كل مناسبة أننا سنعبر وننتصر؟
ثم شرعت المبادرة في سرد أسس التسوية السياسية التي تراها في ثمانية نقاط متمثلة في: توحيد الكتلة الانتقالية، والشروع في الوصول لجيش واحد،وتوحيد مركز القرار، والاتفاق على آلية موحدة للسياسة الخارجية، والالتزام بتفيذ اتفاق السلام، وتقوية توجه الحكومة الذي يقوم على الإنتاج وحماية الفقراء والمستضعفين، والالتزام بتفكيك دول الحزب، والتزام الجميع عملا لا قولا بالعمل من أجل الوصول إلى حكم ديمقراطي مدني.
ألم نقل لكم أن هناك شعور قوي وخاطر مُلحّ بأن هذه المبادرة خطها يراع أحد الأكاديميين في إحدى مراكز الدراسات التي لا علاقة لها مباشرة بالأوضاع اليومية في السودان، وإلا فكيف يقترح رئيس الوزراء نقاطا بدهية هي من صميم مهامه وأعماله، و كان المواطنون يظنون أنه يقضي سحابة نهاره وكل أوقاته في معالجتها، ويظنون أنه قد فرغ منها، وبشرنا اكثر من مرة بأننا سنعبر وننتصر؛ هذه اللازمة التي لم تجد لها محلا في هذه المبادرة، ربما لأن المقام لا يقتضيها، فلكل مقام مقال.
ثم اختتمت المبادرة بتقديم مقترحات كأساس للتسوية السياسية، اشتملت على سبع نقاط تتمثل في: إصلاح القطاع الأمني والعسكري، وقضايا العدالة،وقضايا الاقتصاد، والسلام، وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو، والسسياسة الخارجية والسيادة الوطنية، وتكوين المجلس التشريعي في مدة أقصاها شهر!!! واختتمت هذه الفقرة باقتراح تكوين آلية مشتركة لمتابعة التنفيذ وتطوير الاتفاق.
أخطر ما في هذه المقترحات، أن رئيس الوزراء في بند الاقتصاد، وهو أهم ما يواجه الحكومة الانتقالية من تحديات؛ اعترف بأن الموارد تكفي، وان (الخطل) يكمن في إدارتها!!! وهذه الفقرة وحدها كافية لأن يقدم رئيس الوزراء استقالته، فإذا كان ـ وهو الخبير الاقتصادي ـ يعترف بعد عامين بأن هناك (خطلا) يتعلق بإدارة الموارد التي وصفها بأنها تكفي؛ فكيف يسوّغ لنفسه البقاء يوما واحدا مسئولا أول في الجهاز التنفيذي للدولة؟
مبادرة رئيس الوزراء لا تنتهي عجائبها، ولعله أراد أن يرسل رسالة واحدة إلى عدة جهات، لكن لأن الجهات مختلفة، ولكل جهة قضايا وأولويات ومخاوف تختلف عن الجهة الأخرى، جاءت مبادرة رئيس الوزراء كثيرة الألوان، عديمة الجدوى، وأخطر ما فيها اعترافه بالفشل والخطل في إدارة الشأن العام.. وعليه من الأفضل لرئيس الوزراء أن يقدم استقالته ليفسح المجل لآخرين ربما ينجحون فيما اعترف بالفشل في إدارته.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى