أصبحت المدنية مدنية مسلحة ويحتكم الناس إلى صناديق الذخيرة بدلا من صناديق الانتخابات.
حوار: حسن عبد الحميد
الأستاذ عبد الرسول النور من السياسيين السودانيين المخضرمين، عرك المجال السياسي منذ أن كان طالبا إبان ثورة أكتوبر 1964م، وشارك في ثورة شعبان 1973م، وحُكم عليه بالإعدام أيام حكم الرئيس جعفر نميري، وأصبح حاكما لكردفان الكبرى في الديمقراطية الثالثة إلى قيام الإنقاذ التي تجول في سجونها وبيوت أشباحها، وهو يرتكز إلى معرفة واسعة بالواقع السوداني، ويستند إلى خبرة طويلة في مجال العمل السياسي، اخترنا أن نجلس إليه لنستنطقه حول بعض قضايا الراهن السياسي فلم يبخل علينا بآرائه وتحليلاته لمجمل الأوضاع السياسية في السودان، ونحاول أن نجلس إليه جلسة أخرى نلم فيها بطرف من تجربته التاريخية في تجارب الحكم والمعارضة إن شاء الله.
• بداية وللأجيال الجديدة ولمن لا يعرفون الأستاذ عبد الرسول النور عرّفنا ـ باختصار ـ بنفسك.
أنا عبد الرسول النور، مولود ببادية كردفان عام 1950، كل التعليم العام كان في كردفان، ثم جامعة الخرطوم كلية الآداب، وتخرجت فيها عام 1976م، ولي دراسات عليا في معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، اعتقلت عدة مرات في عهد مايو والإنقاذ، وفي مايو حوكمت محاكمة ميدانية عسكرية حكمت عليّ بالإعدام عام 1976م، وتجولت في سجون السودان المختلفة، واستقر بي المقام في سجن الدويم، وخرجت من السجن عقب المصالحة الوطنية عام 1977م، ثم عدت إلى السجن عندما غضب النميري على خطبة الصادق المهدي عقب قوانين سبتمبر 1983م، وظللت في سجن الأبيض حوالي عام ونصف بدون محاكمة ولا سؤال، وخرجت من السجن في يناير 1985م، وفي الديمقراطية الثالثة توليت منصب وزير دولة بوزارة الصناعة، ثم حاكما لإقليم كردفان إلى قيام الإنقاذ، ثم أصبحت زبونا دائما للسجون، وبيوت الأشباح إلى مايو 1997م ما بين اعتقالات واستدعاءت، والاستدعاءات أسوأ من الاعتقالات، ثم خرجت إلى الخارج، ووقعنا اتفاق جيبوتي نوفمبر 1999م، وظللنا في (الجهاد المدني) إلى أن جاءت ثورة ديسمبر 2018م.
• وقعت الحكومة الانتقالية اتفاق سلام مع الحركات المسلحة في جوبا،ودخل الاتفاق حيز التنفيذ فعليا.. كيف تقرأون اتفاق جوبا؟ وما رأيكم في منهجية التفاوض ونتائجه؟
ـــ أولا الناس تريد السلام، لأن هذا واحد من شعارات الثورة، ولكن كنت أتوقع أن ينعقد مؤتمر جامع لأهل الخبرة والمصلحة من أهل السودان ليحددوا محاور التفاوض مع الحركات المسلحة، حتى يكون التفاوض جماعيا، وتكون النتائج التي يتم التوصل إليها ملزمة لكل الأطراف، ونسد كل الذرائع، لأن الذي شارك عليه أن يلتزم بما تم التوصل إليه، ولكن هذا لم يحدث، وكانت المفاوضات ثنائية وناقصة، لهذا أصر قادة الحركات المسلحة على انتزاع أكبر مكاسب حزبية لهم على حساب الوطن، باعتبار أن الخيار محصور بين أن يقبلوا هذا أو العودة للحرب، وهو خيار غير مقبول، وكان المفاوضون من الحكومة يريدون أن يبيضوا وجوههم أمام المجتمع الدولي، لهذا وبالرغم من تعثر الاتفاق؛ إلا أن التعثر الأكبر سيكون في التنفيذ، لأن أهم بند وهو بند الترتيبات الأمنية لم يحدد أعداد مسلحي الحركات المسلحة، كم هم؟ وأين؟ وقد بدأ الآن التجنيد وبيع الرتب، ثم إن الدولة المدنية دولة مواطنة، لكننا نلاحظ أن هناك عوامل أخرى غير المواطنة تميز بين الناس، كالقبيلة، والفصيل المسلح، وهذا ينسف الوثيقة الدستورية، فكيف يضغط الناس بقبائلهم، فأصبحت المدنية التي ينادى بها مدنية مسلحة، وأصبحنا لا نعتمد على صناديق الانتخابات، بل صناديق الذخيرة، وأصبح منتسبو الحركات المسلحة يحتلون الحدائق العامة، والفنادق، ويرتكبون المظالم دون ضوابط.
• اتخذ اتفاق جوبا خمس مسارات تفاوض عليها وكل مسار تمثله مجموعة، ما رؤيتكم حول موضوع المسارات نفسه؟ والذين تفاوضوا باسم هذه المسارات هل يمثلون حقيقة مناطقهم التي تحدثوا باسمها؟وهل يفضي هذا المنهج إلى سلام حقيقي؟
ـــ يجب أن يكون هناك مسار واحد، الحكومة والحركات المسلحة، مثلا أهل الشمال والوسط ليست لديهم مشاكل الآن مع الحكومة، لكن الحركات المسلحة لها مشاكل مع مناطقها، هل هي تمثلهم؟ والقتال بعد توقيع اتفاق السلام أصبح أكبر وأوسع وأعنف، في الجنينة، وقريضة، والطويلة على سبيل المثال، وهكذا، فكيف يكون هناك سلام والحرب قائمة.
• برأيكم لماذا سارت الحكومة الانتقالية على هذه الطريقة التي أفضت إلى اتفاق جوبا رغم ما عليه من ملاحظات تفضلت بذكر بعضها؟
ـــ الذين أداروا هذا الملف في الحكومة أداروه بحسن نية، وقلة خبرة، واستمعوا لنصائح غير صحيحة، والخارج قطعا كان له
بعض الولاة يعانون من فقر دم سياسي وبعض الوزراء ترضى عنهم مخابرات الدول الصديقة.
دور، ابتداءا من الدولة التي جرى فيها الحوار، وهي حاضنة الحركات المسلحة، وبعد الثورة خرجنا من محور البشير، ودخلنا في محاور جديدة، والمحاور الجديدة هذه أصبح لها الكلمة النهائية في قضايا السودان، والذين أداروا التفاوض من الحكومة رغم أن لديهم تأهيل أكاديمي عال، ولكن نسبة لوجودهم خارج السودان، وتأثرهم بالدول التي جاءوا منها كل ذلك أثر في المفاوضات، ومعظمهم لا يعرفون الذين عارضوا النظام فترة طويلة، فهذه ثورة تراكمية، بدأت من بيوت الأشباح من أول يوم إلى اعتصام القيادة العامة وترنح النظام، ثم تدخل العسكريون واستفادوا من الأمر، وانحازوا للشعب ليحكموا هم.
• الثورة السودانية هل سُرقت؟ أم تاهت؟ أم انحرفت عن مسارها؟
ـــ والثورة تولى دفة قيادتها آخرون يوجهونها لجهة ليست كما يريد الثوار، ومن مظاهر ذلك هناك حديث عن المدنية، وبدل أن يكون هناك عسكريون من الجيش السوداني، شاركهم عسكريون ممن كانوا يواجهون الجيش السوداني سابقا، وبدلا من أن تكون السلطة في مجلس الوزراء الذي اختارته الثورة باعتبار أن مجلس السيادة يسود ولا يحكم، ولكن الذي حدث أن مجلس السيادة وخاصة المكون العسكري يسود ويحكم ويشرع، والثورة تحدثت عن الحريات وبسط الحريات، لكن الذين استفادوا من الحريات هم أعداء الثورة، وإعلامهم هو المسموع والمؤثر، والثورة لا لسان لها، وإن كان لها لسان فهو ألثغ لا يكاد يبين، وأنا ضد الاعتقالات بدون محاكمة أو توجيه تهمة، والمعتقلون إما أن يحاكموا أو يطلق سراحهم.
• في ظل الأوضاع الراهنة ما هو مستقبل السلام في السودان؟
ـــ لا بد من عقد مؤتمر موزون لمناقشة ما تم الاتفاق عليه، وكيفية تنفيذ بعض البنود، مثلا يقال نرجع لنظام الأقاليم، واعتبروا دارفور إقليما واحدا، وكردفان إقليمين.. لماذا؟ لا بد أن يعقد مؤتمر تشارك فيه مجموعات من الضحايا، ضحايا الحركات المسلحة، وضحايا النظام السابق، وضحايا الثورة، حتى يكون التنفيذ ممكنا، ولا نفتح الباب لندخل ناسا ونخرج آخرين، مثلا إذا تكلمنا عن دارفور إين الذين وقعوا الدوحة وأبوجا وانجمينا هؤلاء لا بد أن يحضروا، وكذلك الشرق، مثلا عقار الذي تفاوض مع النظام السابق وجاء باتفاق وأصبح واليا ووزيرا أتفاوض معه، ودبجو مثلا الذي وقع اتفاق أيضا مع النظام السابق كأن ليس له وجود، ومناوي الذي اصبح كبير مساعدي رئيس الجمهورية في النظام السابق موجود، والذين خالفوه وبقوا للسلام مثل تيراب كأنهم غير موجودين، ومن الذي له الحق أن يقبل شخصا باعتباره ثائر، والآخر ليس بثائر، لمن هذا الحق؟ وهناك أسئلة كثيرة عقار مثلا وضعته في مجلس السيادة وله منطقة أولو وهي منطقة صغيرة، والذين كانوا محافظين على الدمازين وهي حاضرة المنطقة أليس لهم وجود؟
اليساريون السودانيون اختاروا السلطة لا الموقف المبدئي في موضوع التطبيع وبلعوا ( الدليبة).
• انخرطت الحكومة الانتقالية في موضوع التطبيع مع (إسرائيل) عبر عدة أعمال كيف تنظر إلى هذه القضية المصيرية والجوهرية في مسار السياسة السودانية؟
هل من حق الفريق أول البرهان كرئيس لمجلس السيادة الذي يسود ولا يحكم أن يسود السياسة الخارجية؟ واعتقد أن هذا كان رغبة أصدقاء، والفترة الانتقالية كما هي،أما القضايا الأساسية تتخذها الحكومة المنتخبة، وحتى الحكومة المنتخبة القضايا الكبرى تعرضها لاستفتاء، ورئيس وزراء الحكومة الانتقالية عندما قابل وزير الخارجية الأمريكي قال له إن التطبيع متروك للحكومة المنتخبة ومجلسها التشريعي، فما الذي جعل التطبيع أولوية؟ وهل هو أولوية فعلا؟ هل لترضى عنا الولايات المتحدة ضروري أن نطبع مع إسرائيل؟ وبحسابات الربح والخسارة، ما هي الدولة التي استفادت من التطبيع مع إسرائيل: أرتريا؟ أم جنوب السودان؟ أم مصر؟ أم الأردن؟ أم السلطة الفلسطينية؟
• من المفارقات أن موضوع التطبيع مع (إسرائيل) تم في وجود اليساريين في السلطة وهم كانوا من أكثر الفئات معارضة لهذا الموضوع كيف تفسر هذا السلوك؟
ـــ الولايات المتحدة في رأيي قصدت أن يكون التطبيع مع إسرائيل علي يد اليساريين والعروبيين، وكان يجب أن تكون معارضة التطبيع منهم، لكنهم الآن صامتون صمت القبور، وقد اختاروا السلطة لا الموقف المبدئي، وهم الآن الذين بلعوا (الدليبة)، ولم يبق في معارضة التطبيع مع إسرائيل إلا حزب الأمة،والإسلاميون المبدئيون.
• كثر الحديث حول قيام المجلس التشريعي الانتقالي وقد نصت عليه الوثيقة الدستورية كأحد الأولويات ولكنه إلى الآن لم يقم لماذا برأيكم؟ وما هو مستقبل تكوينه؟ والمهام التي تنتظره؟
• شهدت العلاقات السودانية الأمريكية تطورا ملحوظا بعد الثورة، كيف تنظر إلى مسار هذه العلاقة؟ وما هو مستقبلها؟ـــ
المجلس التشريعي معضلة كبيرة، والناس يضعون فيه آمالا كبيرة، وسيصابون بخيبة أمل أكبر، لأن الجهات التي ستختار عضوية المجلس التشريعي ستختار شخصيات تنفذ ما تريد هي، والمجلس السيادي كان يجب أن يختار من أهل الخبرة والتجربة، وهذا لم يحدث، واليوم المجلس السيادي كرمز للدولة فيه مشكلة، والمكون العسكري فيه قاطر المدنيين، وعندما تم تشكيل مجلس الوزراء اختاروا رئيسه بمواصفات، وكان يجب أن تضم سياسيين لهم خبرة وتجربة، لكنهم في الحكومة الأولى جاءوا بشخصيات كانوا في الخارج، وحملة شهادات، ولهم علاقات بالمنظمات الدولية، ومخابرات الدول الصديقة راضية عنهم، ولما تولوا السلطة وجدوا أن رصيدهم المعرفي كبير، لكن مشاكل السودان لا علاقة لهم بها، وأصبح أداءهم متواضعا، ثم أصبح أمل الناس في الولاة، وعارضوا العسكريين، وجاءوا بولاة مدنيين، لكن اتضح أن أغلبهم لديهم فقر دم سياسي، وأغلبهم جاء من الخارج، وحدث لهم إعادة توطين في الخارج، وهم يوادون بعضهم، ويتذكرون بعض رفاق الغربة، وأخاف أن يتمخض جبل الأماني في المجلس التشريعي مولودا دون الطموح، ومجلس الشركاء في رأيي هو البديل السياسي للمجلس التشريعي، وكلما كثرت المؤسسات تاه القرار، ولم يدر الناس من أين يخرج، فهذه الدهاليز يتوه فيها القرار الصائب، وفي أغلب الظن سيأتي القرار مشوها، وعندما قامت الثورة كان هناك رئيس وزراء سابق للإنقاذ وهو الذي أقصته الإنقاذ، وكان هناك وزراء وولاة وأعضاء مجلس سيادة سابقون ونواب سابقون بالجمعية التأسيسية، كل هؤلاء لم يسألهم أحد ولم يستشيره في كيف تدار البلاد، لذلك أعتقد أنه ستكون هناك خيبة أمل كبرى في تشكيل المجلس التشريعي القادم.
ـــ كتبت قبل فترة أن الليبيين في حادثة لوكربي أنكروا التهمة، لكنهم انصاعوا لحكم المحكمة ودفعوا التعويضات فأغلق الملف، وناديت بخصوص الاتهامات الأمريكية تجاهنا أن ننكر التهمة، ونلتزم بحكم المحكمة حتى يتم إغلاق الملف، وهذا ما فعله حمدوك، فتم رفع اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب، والولايات المتحدة من السهل أن تتخذ قرارا، لكن من الصعب أن ترفعه، يبقى أن نتعامل بندية مع الولايات المتحدة، وفي السابق كانت الولايات المتحدة تضغط على الإنقاذ، وهذا الآن غير موجود، لكن إذا لم نحسن إدارة مواردنا وإدارة علاقاتنا الخارجية بكبرياء عبر خبرات كبيرة سوف لن نستفيد شيئا.
إذا كان هذا المحور الجديد يعتقد أنه أطعمنا من جوع، فنحن قد أمناهم من الخوف.
• هل ترى أن هناك استراتيجية واضحة تحكم علاقاتنا الخارجية الآن؟
ـــ إلى الآن نحن جزء من محور جديد، وحتى لقاء الفريق أول البرهان مع وزير الخارجية الأمريكي تم في دولة أخرى، نحن نشكر هذا المحور الجديد، ونطلب منهم أن يتركونا نكمل المشوار، وإذا كانت أكبر نعمتين هما الإطعام من جوع والأمن من الخوف كما قال تعالى ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فإذا كان هذا المحور الجديد يعتقد أنه أطعمنا من جوع، فنحن قد أمناهم من الخوف.
ما قام به الجيش في الشرق يستحق المساندة ولا زالت لدينا أراض محتلة من دولتين صديقتين
• أقدم الجيش السوداني على استرداد أراض كانت تحتلها إثيوبيا لأكثر من ربع قرن وتستفيد منها، كيف تنظر لهذه الخطوة؟ وما مصير الأراضي السودانية المحتلة من دول أخرى؟
ـــ الذي حدث في الشرق من الجيش، ونحن كسودانيين يجب أن نؤيد الأولوية التي رآها الجيش، ولا يستطيع كائن من كان أن يلوم الجيش على استعادته جزء من أرض الوطن، فما قام به الجيش يستحق المساندة، ولا يقلل من أهمية هذه الخطوة أنها جاءت متأخرة، ولا بد من فتح ملف محاسبة الذين قصروا في حماية أرض الوطن قبل ربع قرن من الزمن سهوا أو عجزا، ولا زالت لدينا أراض محتلة من دولتين صديقتين؛ مثلث حلايب وشلاتين محتل من جانب مصر، وهي أراضي سودانية لا يمكن التفريط فيها، ويمكن حلها باليد بدلا من الأسنان، والدولة الأخرى هي دولة جنوب السودان وهي راعية وحاضنة مفاوضات السلام، وبالتالي تأخر الحديث عن الأراضي السودانية التي تحتلها، وهي أراض معروفة وفق إعلان مبادئ الإيقاد الذي جرت المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية على ضوئه، وعرفت الجنوب بأنه المنطقة الواقعة جنوب خط الحدود بين المديريات الشمالية والجنوبية صبيحة الاستقلال في 1 يناير 1956م، وكل ما نريده بالتفاوض والتفاهم أن ننفذ هذا، وهذا الاتفاق شاهدة عليه وموقعة عليه دول الإيقاد، ودول الاتحاد الأوروبي، وكندا، والولايات المتحدة، واستراليا.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس