– هل المشاركة في الحكومات التي تخالف شريعة الله من المحرمات..أم من المباحات.. أم تدخل في باب الموازنة بين المصلحة والمفسدة؟
– وماذا حصدت الجماعات الإسلامية في السودان من مشاركتها في نظام الإنقاذ؟
– هل كانت مشاركة الجماعات الإسلامية مؤسسة على رؤية سياسية، أم كانت خدمة لرغبات شخصية؟
في استطلاع مثير: دعاة، ومفكرون، وقياديون في جماعات إسلامية وناشطون سياسيون ومجتمعيون يقولون رأيهم بصراحة..
استطلاع: الفاتح عبد الرحمن
أول مشاركة للإسلاميين في الحكم في السودان، كانت بعد ثورة اكتوبر 1964م، عندما تولى القيادي بالإخوان المسلمين د.محمد صالح عمر حقيبة الثروة الحيوانية، في الحكومة الانتقالية برئاسة سر الختم الخليفة، وكانت المشاركة الثانية في أواخر عهد نظام مايو، في أعقاب ما يعرف بالمصالحة الوطنية، حيث انخرطت حركة الاتجاه الإسلامية بقيادة حسن عبد الله الترابي في أجهزة نظام مايو، ولم تفارقها إلا بعد سقوط نظام جعفر نميري، في انتفاضة 1985م.
ولكن أوضح ظهور فعلي للإسلاميين في أنظمة الحكم في السودان بانقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يوليو 1989م على حكومة الأحزاب التي كان يترأسها آنذاك الصادق المهدي الذي ينتمي لحزب الأمة والذي شكّل مع غريمه الحزب الاتحادي الديمقراطي أكبر طائفتين تُصنّفان بأنهما إسلاميتين إلى يومنا هذا على الرغم من التحولات الفكرية الكبيرة التي حدثت على مستوى القيادة في كل منهما.
وباستيلاء الجبهة الإسلامية على نظام الحكم في السودان، سعت لتطبيق فلسفتها التي تحملها وتؤمن بها، والتي شابها القصور، وأحاطت بها الإخفاقات من كل جانب، حتى انتهت بسقوطها المدوّي في أبريل 2019م، وقبل ذلك فتحت الباب بمقدار ما تريد لجميع طوائف وجماعات العمل الإسلامي، لمشاركتها تلك التجربة، أو قل لإضفاء بعض من الشرعية والمصداقية عليها، ولتجميل صورتها أمام نظيراتها في العالم الإسلامي والتي سعت جاهدة لتكون القائدة والرائدة لتلك التجارب الموزعة هنا وهناك في خارطة الوجود الإسلامي عبر العالم.
وعلى اعتبار أن تجربة الجبهة الإسلامية القومية والتي تطورت فيما بعد لتشكّل ثورة الإنقاذ الوطني التي تسلّمت زمام الحكم في السودان طيلة الثلاثين عاماً الماضية، على اعتبار أنها لم تمثّل الإسلام تمثيلاً صحيحاً سليماً، إلا أن بعض الكيانات الإسلامية شاركتها الحكم والتجربة، سواء أكانت تلك المشاركة بصفة فردية ولكن بعلم ومباركة الجماعة، أم كانت مشاركة تعبّر عن الجماعة ككل، فكان أن شارك الأخوان المسلمون أو بعض منهم، وبعض المنتسبين لجماعة أنصار السنة المحمدية، تلك المشاركة التي كانت متفاوتة المستويات؛ فما بين وزراء اتحاديين إلى نواب في البرلمان إلى أعضاء في المجالس التشريعية، تعددت أوجه مشاركة الإسلاميين في السلطة، والتي ألقت بظلال واضحة على مستوى وتداعيات ومآلات تلك السلطة، ما يضعنا أمام تساؤلات مشروعة عن جدوى ونتائج تلك المشاركة، وهل حققت أهدافها المرجوة، أم أنها كانت مشاركة فقط لأجل المشاركة ولملء فراغات هيكلية حركية كانت تعيشها تلك الكيانات الإسلامية أو أفرادها المشاركين؟!.
في هذا الاستطلاع حاولنا استنطاق طائفة من قيادات العمل الإسلامي وبعض الدعاة والأكاديميين والباحثين حول حصاد مشاركة الإسلاميين في السلطة إيجاباً أو سلباً، فكانت حصيلتنا الآتية.
الأستاذ محمد عبد الله الغبشاوي الداعية والباحث الأكاديمي:
كانت البداية مع الأستاذ محمد عبد الله الغبشاوي الداعية والباحث الأكاديمي، والذي يوقن بأن عهد الرقع والتلفيق قد ولى، والعوادي التي اعترت بناء الأمة الإسلامية قد أصابته بتصدعات كثيرة لم يسلم منها جزء من أجزائه، وعليه فهو يرى ألا أقل من إعادة بناء شاملة؛ بدءاً بالمعتقد ونهايةً بالتنظيم، مضيفاً أن الداء الوبيل الذى فتك بكل العاملين للإسلام المعاصرين (عدا الأفغان) هو التغريب بمسمياته المختلفة، حداثةً كانت أم تنويراً، كما يرى أن أعتى عاصفة غشت الحركات الإسلامية وصارت باباً خلفياً لتقويضها، المتأثرات بالحركة النسوية الغربية (حركة الفمنزم) التي هي في رأيه حركة صهيونية من رأسها إلى أخمص قدميها، والتي يرى أنها اقتنصت الغفلة العريضة والجهل الكثيف المحيط بالإسلاميين المعاصرين، فأعملت معولها تجاوباً مع أجندة مقوِّضة لبناء الإسلام بالكلية، وهي بذلك تعتبر أضر وأعصف عوارض التغريب الهدام الذي اعترى الأمة الإسلامية.
الأستاذ عبد الله حسين – حزب التحرير الإسلامي
أما الأستاذ عبد الله حسين منسق لجنة الاتصالات المركزية بحزب التحرير “ولاية السودان” فيرى أن انقلاب يونيو 1989م الذي جعل الحركة الإسلامية في الحكم، وإشراكها لعدد من الجماعات والأحزاب ذات الصبغة الإسلامية بهدف إقامة المشروع الحضاري الإسلامي (كما زعموا) وما تخلل ذلك من خلافات ومفاصلة تمخضت عن قيام المؤتمر الوطني والشعبي، واستمرار حكم المؤتمر الوطني وتحالف بعض القوى الإسلامية إلى قيام ثورة أبريل 2019م التي أطاحت بحكم البشير والإسلاميين، وجاءت بحكومة علمانية صارخة، أثبت ذلك كله أن حكم الإسلاميين قد ظلم البلاد والعباد، وأوصل الأمور إلى دركٍ سحيقٍ من السوء، مضيفاً أن الحكومة المدنية العلمانية الحالية سارعت إلى إزالة وتغيير كل القوانين ذات الصبغة الإسلامية فى الأحوال الشخصية والنظام العام، وإقرار إتفاقية سيداو، ورفع التحفظ على بعض المواد المثيرة للجدل بميثاق الطفل الإفريقي، وتغيير مناهج التعليم وتخفيف جرعة الثقافة الإسلامية في المناهج الدراسية، والهجوم الكاسح على الإسلام السياسي وغير ذلك. إذاً يرى الأستاذ عبد الله أن قيام الحكم في السودان في عهد الإنقاذ على أكتاف الإسلاميين، أدى إلى خسارة كبيرة بفشلهم الذي عزاه لعدم الوعي بالإسلام الذي لا يمكن تطبيقه في ظل القوالب التي وضعها الاستعمار بما يسمى بالدولة الوطنية القطرية، وكذلك عدم الوعي بأن نظام الحكم في الإسلام هو الخلافة التي بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثير، وأيضاً لعدم وجود الفهم المفصّل، للإسلام عن الحكم، لدى أولئك الإسلاميين، بالإضافة إلى عدم اعتنائهم بصياغة دستور إسلامي مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أرشدا إليه، وأخيراً لارتباط بعض القيادات بالقوى الاستعمارية لا سيما بعض الشخصيات (العسكرية والمدنية).
لكل ذلك عزا الأستاذ عبد الله الفشل المحقق للإسلاميين في الحكم، مما اتخذه العلمانيون سبباً لتجريم الإسلام ووصفه بالظلم والعجز عن إعطاء المعالجات الناجعة للمشاكل، وتحقيق تطلعات الأمة، فكانت الحملة الإعلامية والسياسية شديدة بفشل الإسلام السياسي مصحوبةً بالدعوة والعمل على إقصائه عن الحكم، مضيفاً أن الإسلام لم يحكم في السودان يوماً، ولا يكون ذلك إلا في نظام الخلافة القائمة قريباً بإذن، والتي سيكون السودان منطلقاً لها، لتوحيد بلاد المسلمين، وتطبيق الشرع والدين وتحرير المقدسات والأراضي المغتصبة، ورد اعتبار الأمة، وقطع أيدي القوى الاستعمارية الطامعة والعابثة في بلادنا وبلاد المسلمين.
في المشاركة انحراف عن تراتبية منهج التغيير التي اختطها النبي صلى الله عليه وسلم للأمة.
علاء الدين عبد الماجد – صحفي وناشط اجتماعي:
من ناحية أخرى قال الصحفي والناشط الاجتماعي المهندس علاء الدين عبد الماجد إن موضوع المشاركة من الموضوعات المعقدة التي تأتي في واقع معقد، مضيفاً أنه لتقييم تجربة المشاركة في السلطة في عهد الإنقاذ، لا بد من مقدمات منهجية ثلاث للوصول لهذا التقييم:
أولها: في الأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله، فالأصل عدم المشاركة فيها تشريعاً وتنفيذاً، والمشاركة تأتي استثناءً، بحيث تكون ضرورة حقيقية غير متوهمة.
أما في الثانية فيرى علاء الدين أن المشاركة تنحرف بتراتبية منهج التغيير التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم (فرد، أسرة، مجتمع، دولة) فالدولة نتيجة للمجتمع لا العكس.
وفي الثالثة يرى أن المشاركة تعتبر تكريساً لمشروع الدولة الحديثة بالمفهوم الغربي (الدولة المدنية المناهضة للمشروع الإسلامي).
وفي ذات السياق يرى علاء الدين أنه تم استدراج للإسلاميين للاعتراف بالدولة الحديثة تأصيلاً، في الوقت الذي كانوا فيه يتعاملون معها كواقع، فمن متطلبات الدولة الحديثة المشاركة في برلمانتها وأجهزتها التنفيذية، فوقعوا في هذا الشَرَك.
وختم المهندس علاء الدين مداخلته بقوله: الواقع يقول أن التأثير الإيجابي للمشاركة ضعيف، فلم يحدث تغيير في سياسة الدولة من الفساد العريض في كل المجالات سياسية واقتصادية واجتماعية، اللهمَّ إلا اعتراضات لا تعدو أن تكون مواقف لا تأثر على الواقع تغييراً.
لا يوجد حكم ثابت لأي شكل أو نوع من أشكال أو أنواع المشاركة
أما الأستاذ معتز محجوب عثمان مدرب التنمية البشرية المعتمد والمقرّب من الأخوان المسلمين فيرى أن مشاركة الإسلاميين في الحكومة السابقة والحكومات عموماً فيما يتعلق بالمكاسب والخسائر، فالأمر يتأسس ابتداءً من الموقف من المشاركة في الأنظمة السياسية حتى وإن غلب الظن مخالفتها للدين في بعض الأمور، ولديها بعض الإشكالات الخاصة بالهوية الإسلامية، ففي المرجعية الإسلامية تصنّف المشاركة في مثل هذه الأنظمة ضمن أبواب السياسة الشرعية القائمة على درء المفاسد وجلب المصالح، فلا نقطع بوجود حكم واحد وثابت لكل شكل أو نوع من أشكال أو أنواع المشاركة، لأي نوع من الجماعات أو الحركات الإسلامية سواء أكان ذلك في السودان أو غيره من الدول، فباب الاجتهاد مفتوح قياماً بالقاعدة الأصولية أعلاه، وعلى الإسلاميين في كل مكان بمن فيهم السودانيين، أن يدرسوا الواقع المحيط بالنظام أو الدولة التي يقيمون فيها، ويدرسوا كذلك مدى قرب أو بُعد الحكومة القائمة من الدين، ثم بعد ذلك يقرروا ويرجّحوا هل المشاركة تجوز أم لا، فإن غلب على ظنهم أن بالإمكان تقليل المفاسد أو درئها أو منعها، أو زيادة المصالح المترتبة على هذه المشاركة، تخرج بذلك هذه المسألة من باب التحريم المطلق أو التجويز المطلق، إلى باب الاجتهاد والترجيح، وللمجتهد أجران إن اجتهد وأصاب، وأجرٌ واحدٌ إن اجتهد وأخطأ.معتز محجوب عثمان – مدرب تنمية بشرية:
من ناحية أخرى قال الأستاذ معتز أن مسألة مشاركة الإسلاميين للحكم في السودان أو غيره من الدول الإسلامية، تقع في مستويين عموماً؛ الأول: مستوى تنفيذي تُحسب مشاركة الإسلاميين فيه سلباً أو إيجاباً، والثاني: تشريعي يُعنى بوضع التشريعات والقوانين والرقابة على الأعمال.
وبالنسبة لمشاركة الإسلاميين للإنقاذ التي رفعت عند مجيئها شعارات إسلامية، واستوحت بعض ملامح حكمها من المشروع الإسلامي، يرى الأستاذ معتز أن الإسلاميين حينها كانوا في حيرة من أمرهم، لأنهم كانوا يقارنون تجربة الحكم الإسلامي في السودان بالمثال الذي كانت تجسده الخلافة الإسلامية والدول الإسلامية القديمة في التاريخ، وهذا التصور أنشأ فوارق ذهنية وفكرية كبيرة، وجعل من الصعوبة بمكان للإسلاميين في السودان أن يصدروا حكماً مباشراً بالمشاركة في حكومة الإنقاذ، لأنهم كانوا يرونها ترتكب كثير من المؤبقات والانحرافات الفكرية والعقدية، الأمر الذي تسبب في استفزازهم وجعلهم لا يستطيعون أن يحددوا بشكل واضح موقفهم منها.
من جهة أخرى يرى الأستاذ معتز أن شكل مشاركة الإسلاميين للإنقاذ في الحكم ينقسم إلى نوعين: مشاركة التيارات السلفية التي تمثلها جماعة أنصار السنة والمجموعات السلفية الأخرى، ومجموعة الأخوان المسلمون بقيادة المرحوم الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، ومن بعده الشيخ الحبر يوسف نور الدائم، وهاتين المجموعتين اختلفت درجات مشاركة كل منهما في الجهازين التنفيذي والتشريعي خلال الفترات المختلفة، ويبدو أنهما قد حسمتا المسألة الشرعية من المشاركة بالجواز، وكانت القضية فقط في مستوى المشاركة في الجهاز التنفيذي أم في التشريعي أم في الاثنين معاً، وهذا الموقف بالتأكيد يختلف عن مواقف بقية المجموعات الإسلامية التي توقفت عن المشاركة ابتداءً، لوجود مواقف مبدئية لها من ذلك، كحزب التحرير، ومجموعة الأخوان المسلمين (الإصلاح) قبل انضمامهم للإخوان، وجماعة الاعتصام بالكتاب والسنة وغيرها من المجموعات الإسلامية الصغيرة، أو بعض السلفيين الذين يحملون أفكاراً جهادية، والذين صنّفوا نظام الإنقاذ بألا علاقة له بالدين، وبالتالي مشاركته تكون من باب تقويته على الباطل، فهذه وجهة نظر هذه المجموعات في المشاركة بخلاف الأخوان المسلمين (شيخ صادق) وأنصار السنة الذين حسموا أمر شرعية المشاركة، وخطوا خطوات عملية، كانت أولاها إقرار الجهاز التنفيذي للأخوان المسلمين لمشاركة الدكتور عصام أحمد البشير وزيراً للإرشاد والأوقاف في حكومة الإنقاذ، وجماعة أنصار السنة التي شاركت أيضاً ببعض الولاة والمعتمدين كالشيخ التهامي على ما أذكر. إذاً المشاركة الأولى للأخوان وأنصار السنة كانت على مستوى الجهاز التنفيذي، أي كانوا على مستوى تخطيط وتنفيذ السياسات الحكومية التي يجيزها المؤتمر الوطني، مما يعني أنهم قد توافقوا مع هذه السياسات وكانوا خادمين لها بصرف النظر عن رفضها أو قبولها على مستوى الأعضاء في هاتين الجماعتين، ولكن في النهاية صار الأخوان المسلمين وأنصار السنة جزءاً من النظام في تلك الفترة.
وفي تقديره قال الأستاذ معتز أنه لا يستطيع القول أن هذه التجربة ناجحة أو فاشلة تماماً، إلا بمقاييس دراسة الوضع في تلك الفترة، مضيفاً أن مشاركة المجموعتين (بعيداً عن معيار النجاح أو الفشل) كانت أقوى حسب ظنه، بمعنى أن المشاركة في الجهاز التنفيذي تعطي المجموعات الإسلامية القدرة على اتخاذ القرار، القدرة على المناورة السياسية، القدرة على طرح الأفكار والمشروعات بشكل قوي، وإحداث التعديلات التي تلزم في بعض الأشياء التي لا تروق لهم ربما أو يرون أن المؤتمر الوطني أخطأ فيها، فالمشاركة بهذه الصورة كانت أقوى في تقديره، مشيراً لتجربة الدكتور عصام البشير بوزارة الإرشاد والأوقاف والنجاحات الواضحة والمميزة التي حققها فيها، ولكن كانت الخسارة الكبيرة في تمسُّك عصام البشير بمنصبه، ورفضه لقرار الجماعة القاضي بالخروج من الحكومة، وتضحيته بها، وانضمامه للمؤتمر الوطني.
وأضاف معتز قائلاً: في تقديري أن المشاركة الأولى للأخوان في الحكم، خسرت فيها الجماعة قيادياً كبيراً مثل الدكتور عصام البشير الذي كسبته الحكومة، ولم يكسب الأخوان كتنظيم من المشاركة.
أما بخصوص المشاركة الثانية للأخوان فكانت في ظل جهاز تشريعي ولكنها كانت متقطعة وموزعة في بعض المجالس التشريعية الولائية في الخرطوم وسنار والجزيرة وبورتسودان، وهي وإن كانت لا تترتب عليها مسؤولية كبيرة، إلا أنها تكون ضعيفة بسبب حاجة المشارك في المجلس التشريعي للأغلبية والقوة حتى يستطيع تمرير وجهة نظره التي يراها صواباً، وبالتالي عنصر القوة الذي ذكرته في المجلس التنفيذي ينتفي في التشريعي، فكانت المشاركة حينها سواء للأخوان المسلمين أو أنصار السنة، من باب رفع الحرج عن أنفسهم عن تنفيذ سياسات النظام، والاكتفاء بدور الرقيب والحسيب في المجالس التشريعية.
إذاً هذه المشاركة كانت ضعيفة جداً (يقول الأستاذ معتز) وغير مجدية، ولا طائل من ورائها، وأحدثت خسارة كبيرة للإسلاميين على مستوى كسب الشارع الذي أصبح ينظر إليهم كجزء من النظام الذي لم يستفيدوا من مغانمه ونالوا كل مغارمه.
وختم الأستاذ معتز محجوب تقييمه العام لمشاركة الإسلاميين لنظام الإنقاذ بقوله أنها من ناحية شرعية كانت محررة ومؤصّلة ومرتكزة على مبادئ فكرية وشرعية محددة، وكانت الدفوعات فيها قوية وواضحة على الأقل بالنسبة إليهم هم، مع وجود بعض الأصوات الرافضة للمشاركة في المجموعتين (الأخوان وأنصار السنة) إلا أن الرأي الغالب كان مع جواز المشاركة وبالأدلة الشرعية، أما فيما يتعلق بتقييم المشاركة ضمن الجهاز التنفيذي، يرى معتز أنها كانت أقوى وأكثر فاعليةً وتأثيراً، ولكن ما يعيبها أنها كانت على أساس اتفاق للمشاركة مع الحكومة وليس كما تفعل الحركات المسلحة الآن، فكان يمكن أن يكون هناك اتفاق أو خارطة طريق بين هاتين المجموعتين والحكومة، على إصلاحات معينة في النظام، كإصلاح الخلل في بنية الدولة أو إصلاح الخلل في الاقتصاد أو في الأخلاق والدين، ولكن للأسف كل هذه المشاركات التنفيذية كانت دون اتفاق أصلاً، وكأنها كانت في فترة من الفترات تعكس رغبات شخصية لبعض القيادات الإسلامية في الوجود داخل الحكم، وهذا ما يفسر موقف المشاركين من الأخوان أو أنصار السنة من جماعاتهم بعد اتخاذ قرار المشاركة في الحكم، فهم إما خرجوا عن تلك الجماعات، كالدكتور عصام البشير، أو خرجوا وكوّنوا أحزاباً أخرى كالدكتور يوسف الكودة، الذين غلبت عليهما رغبتهما الشخصية في المشاركة والمواصلة في ظل حكومة الإنقاذ.
إذن لم تكن هناك رؤية واضحة للمشاركة في الجهاز التنفيذي على الرغم من أنها هي الأفضل، وجاءت بعد دفعها بالرؤية الشرعية، ولكنها للأسف كانت تعكس بعض الرغبات الشخصية لبعض الأشخاص للوجود في ظل السلطان.
أما التقييم الثالث للمشاركة ضمن الأجهزة التشريعية، فيرى الأستاذ معتز أنها الأفضل بالنسبة لصورة الإسلاميين في الحكم إذا أرادوا أن يصونوا أنفسهم من القيل والقال، ولكن في الواقع أنها لم تكن هي الأفضل من الجهاز التنفيذي، وكانت ضعيفة وغير ذات معنى، فلم يكن لنواب الأخوان أو أنصار السنة في المجالس أي ملفات حساسة تخص الخدمات أو التنمية أو القضايا ذات الصلة بمعاش الناس، وكانوا مجرد أشخاص يقفون أمام الناس متحدثين عن بعض القضايا هنا وهناك، فأصبحت المشاركة بهذه الصورة خصماً على الجماعتين، وعليه يرى معتز أن مشاركة الإسلاميين ضمن أي نظام (بعد تحرير الرأي الشرعي) ينبغي أولاً أن تكون ضمن رؤية سياسية واضحة، وثانياً أن تكون ضمن اتفاق مكتوب وواضح، وقبل ذلك لا يجب على الإسلاميين أن يتعجلوا المشاركة في السلطة كمبدأ من غير إيجاد القوة السياسية الفاعلة على الأرض والقوة الحيوية التي تستطيع إجبار أي نظام من داخل البرلمان أو من خارجه على الرضوخ لمتطلباتها، وبغير هذه العناصر من الصعب أن يكون للمشاركة دور فعال.
الإسلام الاشتراكي والديمقراطي نظامان تأثرت بهما بعض الجماعات الإسلامية وسعت للمقاربة بينهما وبين النظام الإسلامي
د.أمين طه الخواض – أستاذ أصول الفقه بالجامعات السودانية:
ويرى الدكتور أمين طه الخواض وأستاذ أصول الفقه بالجامعات السودانية أن نشأة معظم الجماعات العاملة في الساحة الإسلامية بداية القرن المنصرم، جاءت عندما فقد المسلمون دولتهم الإسلامية وخليفتهم بسقوط الخلافة في العام 1924م، فأصبحت الأمة الإسلامية مستباحة أمام أعدائها، فلم يعد لها راعٍ يرعاها، ولا أهل حل وعقد يجمعون كلمتها، ولا علماء تجتمع بهم الكلمة، في وقت ظهرت فيه الأفكار العلمانية بقوة وسط مثقفي الأمة أو من سموهم زوراً وبهتاناً (رواد الفكر التقدمي)، وكل ذلك بتخطيط المحتل ومن ورائه الماسونية اليهودية.
في ظل هذه الأوضاع نشأت الجماعات الإسلامية لتعيد الناس لمنبعهم الصافي (الإسلام) ولتثبت للجميع أن أنظمة الإسلام السياسية والاقتصادية والاجتماعية صالحة لكل زمان ومكان بل هي وحدها دون سواها المنقذ للبشرية جمعاء من التخبط والجاهلية التي انغمست فيها حتى أذنيها، ولكنها بدلاً عن ذلك انشغلت أو سيقت وتم توجيهها في اتجاه آخر وهو كيفية المقاربة بين أنظمة الإسلام والأنظمة الجاهلية التي فرضها المحتل الأجنبي واقعاً لا يجوز التحاكم لغيره، فوجدناها تتأثر خلال مسيرها بضغوطات مجتمعهما الذي تعيش فيه، فظهر ما سُمي بالإسلام الإشتراكي عندما كانت الاشتراكية هي السائدة، ثم ظهر الإسلام الديمقراطي عندما سادت الديمقراطية، وهكذا ظل بعض قيادات هذه الجماعات الحركية ومفكريها يرهنون جماعتهم لهذه الأنظمة الجاهلية، فتارةً يظنون أن الديمقراطية يمكن أن تكون وسيلة للوصول لتحقيق الغايات المنشودة أو على الأقل فرصة لعرض برامج الجماعة، وليتعرف المجتمع على القيادات الإسلامية، وتارةً أخرى يظنون أن المشاركة في نظام ديكتاتوري يخفف من غلوائه، ويتيح للجماعة فرصة إثبات وجودها في الحياة السياسية، وفي كل ذلك هم لا يتقدمون بمبادارات ذاتية نابعة من دواخلهم، بل يفعلون ذلك تكيفاً مع الضغوط، أو أملاً في الحصول على مكاسب لحظية، وهذا للأسف ما وقع فيه معظم الإسلاميين في السودان عندما شاركوا خلال سنوات الإنقاذ، فقد توهموا أنهم سيحققون بعض الإيجابيات المذكورة أعلاه، ولكن هذه المشاركة كانت خصماً من رصيدهم وسمعتهم، وأضرت بهم ضرراً شديداً ستظل هذه الجماعات تعاني من تداعياته وقتاً ليس بالقصير.
من ناحية أخرى يرى الدكتور أمين أن أبرز السلبيات التي خرجت بها هذه الجماعات من المشاركة في نظام الإنقاذ، هي أن المشاركة كشفت عن عدم امتلاك تلك الجماعات لتصور واضح عن طبيعة الدولة، وكشفت كذلك عن غياب نموذج تطبيقي لتحقيق الدولة الإسلامية، إضافة إلى الخلل كبير في فهمها لمنهج التغيير الإسلامي، ومن ثم فشلت تلك الجماعات خلال مشاركتها، في وضع تصور عملي يجعل مشاركتها متفردة ومتميزة عن غيرها من الأحزاب الأخرى المشاركة. كذلك يرى الدكتور أمين أن المشاركة لم تعكس تجربة إسلامية، بل كانت إقراراً لمسخٍ مشوهٍ لا هو إسلامي ولا هو علماني، مما أضرّ بصورة الإسلاميين، وأعاد المشروع الإسلامي خطوات وخطوات للوراء. كما لم يشعر الشعب أنهم يختلفون كثيراً عن تجارب الآخرين خاصةً العلمانيين، لأنهم لم يقدموا جديداً.
وأيضاً خدعت تلك الجماعات المشاركة الشعب، وأعطت صورة مشوهة عن الإسلاميين وتجاربهم من خلال إقرارها وموافقتها وتوقيعها على مواثيق ودساتير تصادم الشريعة الإسلامية نفسها، الأمر الذي أفقدها بوصلتها وهدفها الأساسي الذي من أجله نشأت، فأصبح صوت معارضتهم خفيضاً جداً، كما لم يكن لديهم مواقف واضحة فاصلة من الفساد، مما أفقدهم احترام الشارع السوداني، وصار يضعهم في (قفة) واحدة مع الكيزان، وآخرون يصمونهم بأنهم احزاب ديكورية.
كذلك حدثت انقسامات وتشظي داخل هذه الجماعات نتيجةً لهذه المشاركة، حيث رفضها البعض بينما أصر عليها آخرون، فكان هذا ثمناً فادحاً لا يقارن بأية إيجابية مزعومة زعمها من برر المشاركة وناضل عنها.
لم يكن أمام الأخوان إلا المشاركة في الحوار الوطني وإلا فالانقلاب العسكري أو اجتياح العاصمة من قبل الحركات المسلحة كانا هما البديلان
أ.حسن عبد الحميد – برلماني سابق، وقيادي بالإخوان المسلمين:
من جانبه شكر الأستاذ حسن عبد الحميد مسؤول المكتب السياسي بجماعة الأخوان المسلمين والعضو البرلماني السابق عن كتلة الجماعة بحكومة الوفاق الوطني شبكة الطابية الإخبارية لاختياره للمشاركة في هذا الاستطلاع، لافتاً الانتباه إلى أن الموضوع طويل ومتشعب، ولا يمكن حصره في استطلاع صحفي محدود المساحة، فنحن نتحدث عن ثلاثين سنة هي عمر نظام الإنقاذ، ونتحدث عن قطاع واسع يمكن أن نطلق عليه لمصلحة البحث والاستطلاع (الإسلاميون)، لذا فتناوله يحتاج إلى حلقات ودراسات لتسليط الضوء عليه، آملاً أن يكون هذا الاستطلاع بداية لتناول أوسع للموضوع بمشيئة الله تعالى.
وفيما يتعلق بمشاركته في البرلمان الأخير للإنقاذ قبل سقوطها بعامين ممثلاً للأخوان المسلمين، قال الأستاذ حسن عبد الحميد أن مداخلته ستقتصر على هذه الفترة التي شارك فيها وكان شاهداً عليها، وإلا فإن الموضوع واسع ومتشعب كما ذكر آنفاً، مضيفاً أنه قبل الإدلاء بمساهمته، يود التمهيد للموضوع ببعض الكلمات المختصرات حول نظام الإنقاذ؛ طبيعته وتطوراته وسياساته، لعل ذلك يكون معيناً على تفهم ما سيدلي به حول مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة في السنتين الأخيرتين للإنقاذ.
فمن المعلوم أن نظام الإنقاذ قد استولى على السلطة في انقلاب الثلاثين من يونيو 1989م، واستمر في السلطة لمدة ثلاثين عاماً إلى أن أطيح به في ثورة شعبية انحازت لها القوات النظامية في أبريل 2019م، وقد مرّ بعدة تطورات في بنيته وسياساته، لذلك يمكن أن نقسم الإنقاذ إلى فترات ثلاث لتسهيل الأمر فيما يتعلق بالإفادة حول موضوع المشاركة في السلطة، هذه الفترات حسب رأيه هي: الفترة الأولى العشرية الأولى للإنقاذ من 1989م وحتى 1999م والتي انتهت بالمفاصلة الشهيرة، وانشقاق في الحزب الحاكم إلى مؤتمر وطني حاكم ومؤتمر شعبي معارض، ثم الفترة الثانية وهي مرحلة نيفاشا من 2005م وحتى 2011م، وهي التي جاءت فيها الحركة الشعبية كشريك رئيس في السلطة، وشهدت هذه الفترة إقرار دستور السودان الانتقالي 2005م، ثم الفترة الثالثة وهي مرحلة ما بعد انفصال الجنوب في 2011م والتي امتدت حتى العام 2019م الذي شهد سقوط الإنقاذ بعد أن حاصرتها الأزمات.
ويضيف الأستاذ حسن بقوله أن الفترة الأولى كانت فترة تثبيت لأقدام النظام، لذلك كانت أبرز خصائصها إقصاء الآخرين، وعدم السماح بأي مشاركة في السلطة إلا نادراً وبشكل صوري، على الرغم من أن نهايات هذه الفترة شهدت إقرار دستور 1998م الذي حاول أن ينقل الإنقاذ إلى مرحلة الشرعية الدستورية، أما الفترة الثانية فعلى الرغم من أنها شهدت منذ بدايتها إقرار دستور 2005م؛ إلا أنها في حقيقتها كانت شراكة بين مجموعتين سياسيتين تسند كل واحدة منهما قوة عسكرية، وهما المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وأيضاً كانت مشاركة الآخرين في السلطة صورية وليست حقيقية ولا فاعلة، إضافة إلى أن المرحلة الأخيرة شهدت ثورات الربيع العربي، وتكاثر الأزمات حول نظام الإنقاذ بعد انفصال الجنوب، وفقدان المورد الاقتصادي الأهم المتمثل في البترول، وهي الفترة التي شهدت كذلك مؤتمر الحوار الوطني، وأفضت إلى مشاركة رمزية لبعض القوى السياسية في السلطة ريثما تأتي الانتخابات العامة التي كان مقرراً قيامها في العام 2020م، وهذه الفترة الأخيرة هي التي سنسلط عليها الضوء.
إن المشاركة في الحوار الوطني تقتضي المشاركة في السلطة كنتيجة طبيعية، إلا أن مجلس شورى الإخوان المسلمين قرر المشاركة في السلطة على المستوى التشريعي فقط دون المستوى التنفيذي
وفيما يتعلق بمشاركة الإخوان المسلمين الأخيرة في السلطة قال الأستاذ حسن أنها جاءت عقب انتهاء مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر من يناير 2014م إلى اكتوبر 2016م، وشارك فيه الإخوان المسلمون بفاعلية، وحجتهم في ذلك كانت تستند إلى أن الحوار (إذا كان جاداً) فهو أفضل الطرق السياسية لحل المشكلات، وأن النظام طالما اختار الحوار، فلنشارك فيه بجدية، وندلو بدلونا مع الآخرين، ونسهم في حل مشكلات الوطن بالحوار، ومن جهة أخرى فإن البديل للحوار وقتها كان إما انقلاباً عسكرياً، أو اجتياحاً للعاصمة بواسطة الحركات المتمردة، وكلا الخيارين مرفوضان لنا في الإخوان المسلمين، لذلك اخترنا المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني.
في ذات السياق أضاف حسن عبد الحميد أنه عقب انتهاء مؤتمر الحوار الوطني، اجتمع مجلس شورى الإخوان المسلمين، وقرر بعد مداولات المشاركة في السلطة، وكانت النقاشات عميقة والمداولات واسعة حول هذا الأمر، لكن خلاصتها اختبار جدية النظام في تنفيذ مقررات الحوار الوطني، والمشاركة مع القوى السياسية الأخرى لحمله على تنفيذها، وأن المشاركة في الحوار الوطني تقتضي المشاركة في السلطة كنتيجة طبيعية، إلا أن مجلس شورى الإخوان المسلمين قرر المشاركة في السلطة على المستوى التشريعي فقط دون المستوى التنفيذي، وذلك للمشاركة في الرقابة على أعمال الحكومة، والمشاركة في سن تشريعات تفضي إلى نظام حريات يخفف من قبضته الأحادية، تلك باختصار كانت دوافع الإخوان المسلمين للمشاركة في السلطة، وكان تمثيل الإخوان المسلمين محدوداً ورمزياً؛ إذ كانت حصيلة المشاركة عضو بالمجلس الوطني، وعضو بمجلس الولايات، وعضو بالمجلس التشريعي لكل من ولاية الخرطوم وولاية الجزيرة، وهكذا قرر الأخوان المسلمون العمل مع الآخرين لحمل النظام على تطبيق مقررات الحوار الوطني، والانتقال إلى نظام يتيح قدراً أكبر من الحريات، ويحترم حقوق الإنسان.
وهذه المشاركة كانت لمدة عامين تقريباً (مايو 2017م إلى أبريل 2019م)، وخلال هذه الفترة حرص الإخوان المسلمين على التعاون مع كل القوى السياسية في البرلمان القومي بغرفتيه، من أجل الوفاء بمقررات الحوار الوطني خاصة تلك التي تتحدث عن الحريات العامة والحكم الراشد، مردفاً أن من أبرز ما قام به الإخوان المسلمون خلال مشاركتهم الرمزية في هذه الفترة، تمثل في الوقوف بوضوح وقوة وصلابة ضد ترشيح البشير في الانتخابات القادمة، لأن دستور البلاد لا يسمح له بذلك، بل دستور حزبه لا يسمح له بذلك، ولأن الوفاء بمقررات الحوار الوطني والعهود التي قطعها النظام على نفسه تقتضي عدم ترشيح البشير مرة أخرى، وفي رأيي أن هذه المسألة (إصرار البشير على الترشيح مرة أخرى) هي أقوى الأسباب التي عجلت (ضمن أسباب أخرى) برحيل النظام، كما أن الإخوان المسلمين عارضوا وبقوة (مع آخرين) تمرير قانون الانتخابات المعيب الذي مرره النظام بأغلبيته الميكانيكية في تحدٍ سافرٍ للقوى السياسية، وفي نقضٍ واضحٍ لعهوده التي قطعها في الحوار الوطني، كما ساهم الإخوان المسلمين (مع غيرهم) في التصدي لمشاريع القوانين والسياسات الخاطئة، مثل القوانين الربوية وغيرها. وربما لا يعرف كثير من الناس أن مجلس شورى الإخوان المسلمين انعقد في جلسة طارئة في يناير 2019م، وقرر بأغلبية الانسحاب من المجلس الوطني ومجلس الولايات والمجلس التشريعي بالخرطوم احتجاجاً على إصرار النظام على ترشيح البشير للرئاسة، واحتجاجاً كذلك على عدم جدية النظام في تطبيق مقررات الحوار الوطني، وأوكل مجلس الشورى إلى المكتب التنفيذي وضع القرار موضع التنفيذ، وكان الإخوان المسلمون قد شاركوا في يناير 2019م في تأسيس الجبهة الوطنية للتغيير التي طالبت في مؤتمر شهير في الأول من يناير 2019م بتنحي البشير وحل المجلس الوطني ومجالس الولايات وحل الحكومة واختيار مجلس انتقالي لإدارة البلاد إلى حين قيام انتخابات عامة.
وختم حسن عبد الحميد مداخلته بقوله: في رأيي أن العامين الأخيرين للإنقاذ والذين شهدا مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة في مستواها التشريعي، مثّلا تجربة ثرة ومفيدة، كان يمكن أن تمضي إلى نهاياتها التي رسمها لها مؤتمر الحوار الوطني، لولا أن نظام الإنقاذ لجأ للمراوغة ونقض العهود، مما أدى إلى سقوطه في نهاية الأمر.
أ.عمر الشامي الكناني- صحفي وباحث:
أما الباحث والصحفي عمر الشامي الكناني فيرى أن تجربة الإسلاميين في السلطة في السودان لم تكن منتزعة من سياقها التاريخي والاجتماعي الذي قامت عليه، إذ كان المجتمع في تلك الفترة بحاجة إلى تغيير جذري ماس، نتيجةً لتراجع دور الدولة، وبروز الحركات المسلحة، وتأهب عدد من الكيانات السياسية الأخرى للانقضاض على السلطة التي كان الإسلاميون هم الأسرع للإستيلاء عليها، ثم مرت مياه كثيرة تحت الجسر.
من ناحية أخرى قال الأستاذ الشامي أن الشعب السوداني تقبّل الإسلاميين في بداياتهم، وكانت التجربة جيدة على ما شابها من أخطاء، ولكن كانت قاصمة الظهر في اتفاقية نيفاشا التي أفضت إلى انفصال الجنوب، مضيفاً أن واحدة من مشاكل التنظيم الإسلامي حينها أنه كان يقوم على نظام الإمرة والأمير الذي أدى إلى تغييب جيل الشباب وعدم إتاحة الفرصة له للتعبير عن رأيه، فسيطرت مجموعة من أصحاب النفوذ على مجريات الأحداث واستبدوا بالسلطة، ونشأت دوائر وبؤر للفساد كانت تتغذى من ولائها لأصحاب القرار، واختلط فيها التنظيم بالدولة، فأصبح الحزب يتكئ ويتغذى على الدولة، ثم دخلت ثلة من المفسدين على ذلكم التنظيم الإسلامي العريق الذي استطاع الصمود في السلطة لفترة طويلة.
من جهة أخرى قال الشامي أن عدم تحديد الأولويات وعدم وضوح السياسات واستعداء العالم بشعارات صارخة، أدى كل ذلك إلى تكالب العالم على الإسلاميين في السودان، إضافة إلى عدم استثمارهم لأحداث الربيع العربي وكذلك أحداث سبتمبر 2013م وما تلاها من أحداث فاصلة كان عليهم أن يتوقفوا عندها، ويخرج جيل ثالث من الشباب لاستلام زمام المبادرة، ولكن ظل جيل الثلاثينات والأربعينات والخمسينات مسيطراً على مجريات الأحداث والحكم في البلاد، فهذه باختصار تجربة الإسلاميين في السلطة في السودان، أما اليوم فالسلطة في أيدي ثلة استولت عليها ولم تفعل فيها شيئاً حتى الآن، فالمواطن لا زال يعاني في معيشته، وهي مصرة على ممارسة التصفية والإقصاء، وكان الإمام الصادق المهدي قبل وفاته قد وضع وصفات ممتازة لانتشال البلد من أزماتها، ولكن تم تجاوزها ولم يتم العمل بها.
د. مدثر أحمد إسماعيل الباهي – الاتحاد السوداني للعلماء والأئمة والدعاة (إسعاد)
ويرى الدكتور مدثر أحمد إسماعيل الأمين العام للاتحاد السوداني للعلماء والأئمة والدعاة (إسعاد) وإمام وخطيب مجمع الإمام مسلم بشرق النيل، أن استشراف مستقبل السودان كان مُهملاً لدى الإسلاميين على الرغم من ظهور إرهاصات متسارعة بزوال نظام البشير، منها ظهور الخلاف الحاد داخل الحزب الحاكم، كما أن زهد المكونات الإسلامية في العمل السياسي الميداني من خلال تكوين أحزاب سياسية تشارك بفاعلية في المجتمع، وتتبنى أطروحات وحلول لمشاكل السودان، وتعبر عن مطالب الشعب، أدى ذلك لبعدهم عن الساحة السياسية أيضاً، إضافة لغياب تمثيلهم في الحوار الوطني الذي كان من أهم الفرص للتغيير، ولكنّهم اكتفوا بالنقد غير البنّاء والضعيف والذي لم يُسمع له، وكذلك اختلافهم في الموقف من البشير ونظامه رغم وضوح الأمر وظهور الفساد وبلوغ الناس مرحلة اللاعودة واللامصالحة.
وأضاف الدكتور مدثر قائلاً أنه في خضم هذه الأحداث برزت إشكالات اعترضت الحراك الإسلامي وكانت سبباً في تعزيز وتكريس ضعف تأثيره على المشهد؛ منها رواسب النظام السابق والتي ظهرت إفرازاتها في مزاج الشارع السوداني وبنت حاجزاً نفسياً بين الإسلام السياسي وبين فئات لا يستهان بها من الشعب، كذلك ابتعاد وامتناع مكونات إسلامية لها قواعد كبيرة عن المشاركة والمناصرة لبعضها البعض وإصرارها على العقلية الحزبية والإنكفاء على ذاتها، وظهور عقلية اعتزال المشهد حتى ينكشف الغبار؛ أسلم وآمن، وتعقيدات التعامل مع الواقع المرير، وعدم التفريق بين الأمرين التكتيكي والاستراتيجي، والتفكير بعمق وبرؤيةٍ استشرافية مع النظرة الواقعية للسياقات الدولية؛ سواءً الإقليمية أو العالمية.
فمن خلال القراءة الحالية للمشهد والسياقات آنفة الذكر لا يُتوقع أن يكون رصيد الإسلاميين كبيراً وذا تأثير على خارطة المستقبل السوداني.
أ.خالد محمد زين – الإخوان المسلمون:
ووصف الأستاذ خالد محمد زين العضو بجماعة الأخوان المسلمين مشاركة الإسلاميين وخصوصاً الأخوان المسلمين في السلطة في السودان أنها كانت نتاج كسل سياسي، بمعنى أنه لم يكن لديهم برنامج سياسي ولا رؤية واضحة تسعى لتنفيذها، فقط وجدوا هذه الفرصة التي أتاحتها لهم حكومة الإنقاذ، فاقتنصوها، لينفّذوا خلالها أنشتطهم السياسية وحراكهم السياسي، وليغطّوا بها كسلهم الدعوي على الجانب الآخر، فجميع مبرراتهم للمشاركة كانت واهية جداً، حيث إنهم زعموا أن صوتهم عبر البرلمان سيكون أقوى وأسرع في الوصول لأكبر قدر من الناس، ونسوا أن منبر الجمعة أكبر وأسرع في الوصول لقلوب الناس.
أما تجربة مشاركة الإسلاميين في السلطة من حيث الإفادة منها، فيرى الأستاذ خالد أنها لم تفد بشيء، مشيراً إلى أنهم في الجماعة عندما قيّموها أكثر من مرة، لم يلمسوا إيجابية ملحوظة، اللهمَّ إلا خروجهم بإيجابية كيفية إدارة الدولة، وهذه نفسها لم تستفد منها الجماعة بالكلية، وإنما استفاد منها الأخوان المشاركين الذين لم يتجاوز عددهم الخمسة أو الستة، وحتى هؤلاء الأخوان فقدتهم الجماعة كعضوية عاملة فيها عقب خروجهم للمشاركة اللهمَّ إلا واحد.
أما بالنسبة لسلبيات المشاركة فأبرزها على مستوى جماعة الأخوان المسلمين هي عدم متابعة هذا العضو المشارك، ومعرفة ما يقوم به، وتوجيهه حسب مقتضى الحال، ولكن هذا ما لم يحدث للأسف.
أ. خالد آدم سعيد – قانوني وناشط بجماعة أنصار السنة:
أما الأستاذ خالد آدم سعيد القانوني والناشط بجماعة أنصار السنة المحمدية فيرى أن المشاركة كانت لحد ما مفيدة، وكانت مقصودة لذاتها؛ ذلك أن الإسلام كدين يتسم بالشمول والهيمنة، وهو منهج متكامل (دين ودولة) ومن مقاصد شريعة الإسلام عمارة الأرض، وتنزيل أحكام الدين، وتطبيقها بين العباد، فهو ليس بمعزل عن واقع الناس، وليس انتقائياً لفئة محددة، ولا كالديانات المحرّفة يأخذ منه أتباعه ما يوافق أهواءهم، وإنما دين حي فاعل ومنظم لحياة الفرد والمجتمع، ولذلك كان لزاماً على من يشتغل في حقله ويدعو له، أن يبحث عن آلية أو طريقة لتنزيله عملياً وواقعاً، وهو ما يُعرف مصطلحاً بالسياسة الشرعية.
مضيفاً أنه لمّا كانت هذه الجماعات ذات أتباع مقدرين وخطاب لطالما بشّر بدولة الإسلام وما فيها من عدل ورحمة، وأنها الدولة المرتجاة، وجدت ضالتها في دولة الإنقاذ التي نادت جهراً بحاكمية الإسلام وأنها امتداد لدولة الخلافة الإسلامية، وأنها كذلك المثال الحي والواقعي للدولة الإسلامية التي طالما حلم بها الناس، ولما كان لها من قوة الخطاب ولحن القول وجمال الشعارات ما يأخذ بالألباب ويؤثر على القناعات، فلكل ما سبق انخرطت هذه الجماعات الإسلامية في المشاركة في الحكم أملاً في الإصلاح أولاً، وكسباً للدربة والتمرس ثانياً، ولربما حمايةً لمكتسباتها الدعوية في ظل هجمة علمانية وغربية شديدة الوطأة، وإعلام غربي موجّه لمحاربة الإسلام دون هوادة.
وعليه هذه العوامل مجتمعةً دفعت هذه الجماعات للمشاركة في الحكم، ولكن ولأن رياح المشاركة أتت بما لا تشتهي سفن هذه الجماعات، كانت المشاركة باهتة وغير ذات فعالية، ولربما كان ضررها أكثر من نفعها، وذلك أنها كرّست للانقسامات والفرقة داخل هذه الجماعات ذات نفسها، أضف لذلك أنها كانت ضعيفة وغير ذات أثر، حيث إنها اصطدمت بشريك متلون وحربائي الطبع لا عهد له ولا أمان، يجيد المراوغة ويبيع معسول الكلام، ولطالما خالف عمله قوله، وعليه فالحكم عليها يحتاج أنها كانت ناقصة وضعيفة وإن كانت في مبدأها وفكرتها مقبولة فقط تحتاج إلى عوامل من التوافق، واتساع مظلة القبول الشعبي، وتأطير محدد وواضح لتقسيم المهام وشيء من الواقعية السياسية في بلد الاختلاف فيه مقدّم على الاتفاق عند سياسييه.
أ. معز زكريا – داعية وناشط اجتماعي:
أما الأستاذ معز زكريا الداعية والناشط الاجتماعي، فيرى أن المبدأ العام في المشاركة بالنسبة للحركات الإسلامية يختلف من حركة لأخرى، فالأصل هو المشاركة للجماعات المهتمة بالعمل السياسي، وعدم المشاركة لتلك التي لا تشتغل بالسياسة، مضيفاً أن مبرر الحركات المشاركة هو تخفيف الضرر وإنكار المنكر وليس تحقيق مصالح شرعية كبرى، وهذا هو مبرر معظم الحركات الإسلامية السودانية التي شاركت نظام الإنقاذ، ومبدأ المشاركة بهذا المفهوم لا يخلو من مصالح ومفاسد، فأيهما أرجح؛ المصالح التي تحققت أم المفاسد التي وقعت.
يستفسر الأستاذ معز، ويجيب بقوله: أن المصالح التي تحققت أكبر من المفاسد التي دُفعت، وأولى هذه المصالح أن هذه الجماعات المشاركة خرجت من ميدان التنظير للعمل السياسي الإسلامي، ودخلت في ميدان العمل الحقيقي، فالتنظير أسهل من التطبيق العملي في هذا الأمر.
أما المصلحة الثانية المتحققة، فهي إيقاف تلك الجماعات المشاركة لبعض الأمور التي كانت الحكومة بصدد تمريرها على الرغم من مخالفتها للشريعة، إلا أنها عدلت عن ذلك مراعاةً لوجود الصوت الإسلامي بمؤسسات الدولة، فقدمت رجلاً وأخرت أخرى.
كذلك من فوائد المشاركة أنها قاربت بين الحركات الموجودة في الميدان السياسي، فبعض المواقف السياسية كانت سبباً لاجتماع الحركات الإسلامية وتوحد كلمتها وتنسيق العمل بينها، ولو كانت هذه الحركات خارج ميدان العمل السياسي لما عرفت حقيقته، ولما بلغت تلك الدرجة من التفاهم والتنسيق بينها.
أما بالنسبة للمفاسد التي وقعت جرّاء مشاركة الكيانات الإسلامية يقول الأستاذ معز أن من أبرزها المشاكل والانقسامات التي حدثت فيها أو الجيوب والتيارات التي تكوّنت بداخلها بسبب تلك المشاركة، وذلك بسبب العجلة التي دخلت بها هذه الكيانات دون التمهيد لذلك وسط قواعدها، ودون مراعاة بيتها الداخلي، ودون التدرج الممرحل، كما أن اتخاذ مواقف سياسية في بعض المناسبات تكون مخالفة لبعض قناعات أفراد بالكيان، قد يكون من المفاسد أيضاً.
كذلك من المفاسد انزلاق بعض الأفراد المشاركين في أخطاء أخلاقية أو تنظيمية أو أخطاء في المواقف، وذلك بسبب عدم التدرج الذي ذكرته آنفاً.
وأخيراً من مفاسد مشاركة الجماعات الإسلامية في السلطة يضيف الأستاذ معز زكريا؛ أن المناوئين لهذه الجماعات وجدوا في ذلك فرصةً ثمينةً للتشكيك والطعن فيها وفي عملها وتوجهها، وذلك عند تبنّيها لموقفين مختلفين في العمل السياسي، فيكون ذلك سبباً للطعن فيها وفي إخلاصها.
أ.طارق محي الدين عثمان – باحث متخصص في تاريخ الجماعات الإسلامية:
من جانبه قال الأستاذ طارق محي الدين عثمان المتخصص في تاريخ الجماعات الإسلامية أن أبرز سمة لمرحلة ما بعد انقلاب الإنقاذ وقُبيل المفاصلة الشهيرة بين البشير والترابي من الناحية السياسية، هو استقلال الأخير وأتباعه بالحكم المطلق، ومعافاتهم لأي فصيل إسلامي أو وطني لمشاركتهم هذه المهمة، فوطّنوا كوادرهم للقيام بذلك، بل وصل بهم الاعتداد بالنفس، بأن تعاملوا مع أي كتلة وطنية أو إسلامية بعنف إذا ما هاجمتهم على منابر الجمعة (المنبر الوحيد المتاح للمعارضة لهذه الجماعات حينها) فكان العديد من مشائخ الجُمع رهينين لمحابس جهاز الأمن بالشهور، فكانت ثقتهم بأنفسهم وبأنهم قادرون على بناء دولتهم ولوحدهم مفرطة، حيث ظنوا بأنهم قاموا بتأسيس كل شئ عبر مؤتمراتهم الشهيرة، الحوار الوطني والحوار الاقتصادي، والحوارات السياسية وغيرها.
لذا فأول ما اتجهت إليه الإنقاذ بعد ذهاب الترابي، ولتجميل وجهها وتخفيف الضغط الدولي والإقليمي عليها، هو الانفتاح السياسي، ومحاولة تجميع الصف الوطني والإسلامي بجانبها، فكانت تشرئب إلى مشاركة الحزبين العتيدين الأمة والاتحادي بحسبان الثقل الجماهيري والتاريخي لهما، ولكن كل محاولاتهم للالتفاف تكسرت عند صخرة صقور الحزبين، واستمراراً لتجميل وجهها اتجهت الإنقاذ بعدها إلى الجماعات الإسلامية (الحيطة القصيرة) لتشاركهم (تمومة جرتق)، فهذه الجماعات أعني بها تحديداً الإخوان المسلمين بفصائلهم، حيث قبلها فصيل شيخ صادق عبد الله عبد الماجد (رحمه الله)، ورفضها فصيل شيخ أبو نارو (رحمه الله)، وأنصار السنة المركز العام الذين انقسموا حولها، أما حزب التحرير فقد حسم أمر مشاركته إلا بخلافة يأتي بها هو.
ولكن كل هذه الكتل (التي شاركت أو التي لم تشارك) لم تكن لديها امتدادات جماهيرية كبيرة لتُملي ما تريد، فهي ضعيفة التكوين ضعيفة الكوادر من الناحية الكمية والنوعية، فلا خطط تسير عليها، وأحلامها أحلام العصافير، وهذا ما تفوّق به عليها الدكتور الترابي حين بدأ تكوين حزبه، والناس في بلادي تأتي بأوزانها وجماهيريتها لتقول فيُسمع لقولها، فهذه الكتل التي شاركت وزنها وزن الريشة، ولا تستطيع أن تحرّك مظاهرة واحدة استقلالاً، فتلك هي الحقيقة المرّة التي يجب أن تواجهها هذه الجماعات التي هي أغلبية ولكن فقط في المساجد.
إذن وتأسيساً على ما سبق، وفي هذا السياق التاريخي يضيف الأستاذ طارق جاءت مشاركة هؤلاء وقد استكملت الإنقاذ دولتها (أو هكذا ظنت) من كل النواحي؛ تشريعية كانت أم تنفيذية أم سياسية، وتركت هامشاً صغيراً جداً يتحرك فيه القادمون الجدد، فما خطر شخصين أو ثلاثة في برلمان تُعرض فيه قضايا كبيرة ومتشعبة ومعقدة ربما تكون خصماً على قضية الإسلام، وفي النهاية الأغلبية الميكانيكية بيد المؤتمر الوطني، وما خطر معتمد محلية غير أنه ينفذ في برامج ومشاريع ولوائح وإجراءات معدة وجاهزة سلفاً، أو وزير دولة (مريسيلة) للوالي أو الوزير الاتحادي أو الولائي لينوب عنه في التشريفات والمهرجانات وينقل تحايا الوالي والوزير، وما انعكاس كل ذلك على قضايا الوطن الكبرى.
كذلك غابت عن المشاركين قضايا أساسية في موضوع المشاركة هذا، فالأحزاب بما فيها الشيوعي شاركت في العام 2005م على أساس اتفاقية مكتوبة ومعلنة، لكن ناس (قريعتي راحت) شاركوا على أي أساس؟ وما حقيقة مشاركتهم وعلى أي أسس تمت؟ وهل هناك منفستو مكتوب أو إعلان مع الإنقاذ يبين فحوى المشاركة حتى تكون فاعلة ويتم عليها جرد حساب بين الطرفين؟ فالذي حدث هو توزيع مناصب لا تستطيع أن تضع عليها بصمتك الفكرية فالأمر قد تم، والبنيان قد اكتملت أركانه، ورُفعت الأقلام وجفت الصحف.
إن القول بالحل أو الحرمة على إطلاقه غير مقبول، فالمشاركة وفق شروط لا بأس بها، وفي النهاية الأمر أمر تقدير مصلحة
وفي ذات السياق يضيف طارق محي الدين أن توقيت مشاركة هذه الجماعات للإنقاذ كان سيئاً، فهي قد هرولت نحوهم بعد أن بدأ سوس الفساد ينخر في منسأتها، ودخل فيها كل متملق أفّاك ووجد له كعباً وعلواً، واستبدّ ببعض كوادر المؤتمر الوطني المؤسسة تغليب المصالح الشخصية والاغتراف من مال السلطة بلا حسيب أو رقيب، شارك الإسلاميون الإنقاذ وقد بدأت تأكل بنيها الذين سهروا على حمايتها، وتمرّد آخرون فما يحدث ليس هو ما حلموا به، وما ظلوا يبشرون به الناس طيلة الديمقراطية الثالثة في لياليهم السياسية وصحفهم الراية وألوان، ولكنهم حضروا زمان (بعد ما لبّنت أدوها الطير)، بل هناك من كوادرهم المحترمة كالدكتور عبد الوهاب الأفندي من تنبّه لهذا الانحراف مبكراً في العام 1995م حين أصدر كتابه (الثورة والإصلاح السياسي في السودان) فقلت لنفسي أن الكتب تأخذ زمناً في التأليف وجمع المعلومات وتمحيصها، بمعنى أن الأمر اختمر لديه قبل سنة أو سنتين، أي بعد مضي خمس سنوات على قيام الثورة.
من ناحية أخرى قال الأستاذ طارق أن قضية المشاركة قد دخلت أروقة الأنظمة العربية والإسلامية أو على صعيد المجالس النيابية بل حتى قضية الانتخابات نفسها لهذه المجالس وبهذه الكيفية، دخلت أروقة الجدل الفقهي بالحل والحرمة حديثاً وتقريباً بُعيد سقوط الخلافة العثمانية رسمياً في 1924م، مضيفاً أنه سمع الشيخ الدكتور ناصر العمر أيام مشاركته لأحد فعاليات المنتدى الإسلامي بقاعة الشارقة بالخرطوم، رداً على سؤاله له عن حكم المشاركة في الأنظمة الحالية، بأن له بحث استوفى فيه ذلك، منشور في موقعه في الانترنت، مواصلاً حديثه (والكلام للشيخ ناصر العمر) إن القول بالحل أو الحرمة على إطلاقه غير مقبول، فالمشاركة وفق شروط (ذكرها في بحثه) لا بأس بها، وفي النهاية الأمر أمر تقدير مصلحة، ويقع تحت دائرة الخلاف الفقهي السائغ”. فهذا الجدل الفقهي حول مسألة المشاركة، كان واحداً من أسباب تشظّي بعض هذه الجماعات، والخلافات الحادة بينها، وأصبحت مسرحاً لكيل الاتهامات وسط صفوفها، تارة بالميوعة في الدين، وأخرى بعدم فهم عقيدة الولاء والبراء وعقيدة التوحيد الصافية، مما سمم الجو الأخوي والدعوي والروحي الصافي، فأصبح التمييز هو رأيك في المشاركة والانتخابات النيابية.
أيضاً من الانعكاسات السالبة في أمر المشاركة، أن الجماعة دائماً ما تختار النابهين من عضويتها، وبعوامل عديدة منها طموح المشارِك، واستمراء حلاوة الكرسي، مع تمكّن هوس أنه يمكن أن يصحح الكثير من المفاسد ومتابعتها وفضحها، والوقوف أمام تغيير معالم الدين وتأكيد عراه، والقنوع ببعض الايجابيات التي يمكن أن تحدث في ظل نظام أحمر قاني، فعند أي تغيّر في قناعة الجماعة المشاركِة أو الهمُّ به، أو حتى محاولات تصحيح أمر المشاركة، فإنه يزهد في مؤسسات جماعته التي جاءت به، وفي أول منعطف يتغير انتمائه، فشهدنا انسلاخ الكثير من الكوادر التي شاركت الإنقاذ عن جماعاتها، لتلتحق بمؤسسات المؤتمر الوطني حتى تستكمل جهودها في الإصلاح.
وجد طلاب أنصار السنة (وهم كتلة لا بأس بها) أنفسهم بين أمرين: صعوبة أن يستعلنوا برأي المركز العام المتصالح مع الحكومة في هذا الوسط الضاغط، أو يختطوا لأنفسهم طريق المعارضة الحادة غير عابئين بالمركز العام ومواقفه
وأردف طارق قائلاً: إن من آثار المشاركة على المستويين التنفيذي والتشريعي، حدوث شرخ في هذه الكتل الإسلامية، التي يفترض أن تقوّي من نفسها لتكون البديل لتجربة رأوها شوهاء، فالإخوان المسلمون (شيخ صادق وشيخ أبو نارو رحمهما الله) رغم اختلافهما التنظيمي في 1991م، أصبح عقدياً بمشاركة مجموعة شيخ صادق، مما باعد الشقة بينهما فخسرت المجموعتان وتشظّت لكانتونات صغيرة ومزق متفرقة.
كذلك أنصار السنة كانت المشاركة وبالاً عليها لكن مع اختلاف، وهو البعد الفكري والعقدي الذي لم يكن مطروحاً في الخلاف، فأنصار السنة عقيدتهم هي الدعاء له، وعدم الخروج عليه، ولا علاقة لهم بالسياسة من قريب ولا بعيد، حسب تصريحات الآباء المؤسسين كشيخ الهدية وشيخ أبو زيد (رحمهما الله)، والذين رددا هذا الكلام في أكثر من مناسبة ومحاضرة، وحسب نشأة الجماعة في مصر على يد الشيخ محمد حامد الفقي وحتى وصلت السودان، ولذلك يتركون أمر الانتماء السياسي لاختيار العضو، ففيهم الاتحادي الديمقراطي وفيهم حزب الأمة، (قالها الشيخ الهدية في إحدى حلقاته مع عمر الجزلي في أسماء في حياتنا)، وكررها مرة أخرى في مجلة الاستجابة، ولكن الذي حدث وبضغط الواقع الطلابي في الجامعات، والمعارض للحركة الإسلامية ذراع المؤتمر الوطني، وجد طلاب أنصار السنة (وهم كتلة لا بأس بها) أنفسهم بين أمرين: صعوبة أن يستعلنوا برأي المركز العام المتصالح مع الحكومة في هذا الوسط الضاغط، أو يختطوا لأنفسهم طريق المعارضة الحادة غير عابئين بالمركز العام ومواقفه، فاختاروا هذا السبيل، وسكت المركز العام على مضض على تصرفاتهم حتى لا يفقدهم، حتى حانت الفرصة حين دبّ الخلاف بين الشيخين الهدية وأبي زيد، فالتفّ هؤلاء الطلاب الغاضبين على المركز حول الشيخ أبو زيد، وبدأوا في توجيهه نحو أجندتهم وكأن الشيخ هو الملاذ من مواقف المركز العام، ولكن الحقيقة أن موقف الشيخين الهدية وأبو زيد متطابقان من الوجهة السياسية، صحيح أن الشيخ أبو زيد يهاجم بعض مواقف السلطة كغيره، ولكن الخروج وإسقاط النظام ليس من أجندته، لكن الطلاب الغاضبون (كسيد الرايحة بفتش خشم البقرة)، فكانت من ثمرات هذه المشاركة (مع غيرها من الأسباب بالطبع) أن سمعنا بجماعتين لأنصار السنة.
كل حكومة لا تجعل الشريعة الإسلامية مرجعيتها العليا أو تعطل الأحكام الثابتة من الشرع الإلهي، يجب خلعها لا المشاركة فيها
الشيخ صديق علي البشير – داعية إسلامي وباحث في العلوم الشرعية:
من جانبه قال الشيخ صديق علي البشير الداعية أن المسلم الحقيقي الجاد هو الذي يجعل إمامه الأعلى هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيجعل مرجعيته العليا الكتاب والسنة في كل شيء بما فيه الحكم والسياسة، والمشاركة في السلطة لا تخرج عن ذلك، لذلك كان من الواجب على المسلم أن يزن السلطة التي يريد أن يشارك فيها بالميزان الشرعي سواء كانت تلك السلطة تشريعية أم تنفيذية، وسواء كان المشارك فرداً أم حزباً أم جماعةً؛ مشيراً إلى أن هناك حكومات يجب على المسلم خلعها لا المشاركة فيها، وهي كل حكومة لا تجعل الشريعة الإسلامية مرجعيتها العليا، أو تلك التي تعطل الأحكام الثابتة من الشرع الإلهي، أو تصدر من القوانين ما يضاد أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا محل اتفاق بين العلماء، لذلك لا تجوز المشاركة في مثل تلك الحكومات.
أما الحكومات التي يكثر في تصرفاتها الظلم والفساد؛ فهذه يجب جهادها بعد بذل النصح لقيادتها وليس المشاركة فيها أيضاً، يقول الله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، وقال النبي صلى الله عليه و سلم: (سَيَكُونُ أُمَرَاءُ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يَؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، لَا إِيمَانَ بَعْدَهُ) [رواه ابن حبان ونحوه رواه مسلم].
ويضيف الشيخ صديق قائلاً: وتأسيساً على ما سبق يتضح الحكم على المشاركة، ولذلك كانت نتائجها بئيسة كئيبة، فلم تنصلح الحكومة لمن أرادوا إصلاحها من الداخل، بل سارت من سيء إلى أسوأ، أما الذين شاركوا لإسقاطها فقد ظهر جلياً أن سياسة الخلع “تسقط بس” كانت أجدى من تفكيكها من الداخل، وأما المشاركة لتحقيق مصالح للأفراد أو المجموعة المشاركة فممنوعةٌ شرعاً لما تقدم ولما تقرر في محكّمات الشريعة، فالغاية لا تبرر الوسيلة، وما كل شيء تضمّن منفعة يجوز فعله، فالمشاركة في أمثال تلك الأنظمة الفاسدة في ميزان الشريعة، تتضمّن مفاسد أكبر بكثير مما فيها من منافع، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة: 219]،
ويقول تعالى أيضاً: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 90]، فالخمر والقمار رغم ما فيهما من منافع، فقد حرّمهما الله هذا التحريم القاطع، فكل منفعة مصادمة للشرع فلا قيمة لها، وكل تصرف مضاد للشرع فهو باطل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ. شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ) [رواه البخاري ومسلم].
خلاصة الاستطلاع:
تبقى مسألة مشاركة بعض الإسلاميين في السلطة في السودان خلال سنوات الإنقاذ مثار نقاش وجدل كبيرين، لكونها عند بعضهم من مسائل السياسة الشرعية التي تقوم على درء المفاسد وجلب المصالح، كما أنها عند البعض الآخر كانت فرصة ثمينة لعرض ما لديهم من بضاعة التنظيم الذي يدينون له بالولاء والطاعة، والترويج لذلك من تحت قبة البرلمان والحكومات الولائية والمجالس التشريعية، إلا أنها عند آخرين منهم لم تكن ذات جدوى تُذكر، فضلاً عن أنها كانت مضيعةً للأوقات والجهود التي إن تم استغلالها بطريقة أخرى، كان ذلك أجدى وأسلم.
وهناك رأي بأن قرار المشاركة ربما تم اتخاذه من قبل بعض الجماعات حمايةً لمكتسباتها الدعوية في ظل هجمة علمانية وغربية شديدة الوطأة، بينما عزا البعض التشظي والتصدعات التي أصابت بعض الجماعات لهذه المشاركة في السلطة، والتي (أي التصدعات) لم تكن موجودةً فيها قبل المشاركة.
تبقى هناك نقطة مهمة في ختام هذا الاستطلاع وهي أن الفوائد المرجوة من المشاركة لم تكن بالقدر الذي يمكن القول معه أنها كانت منتجة وذات جدوى، بل على العكس تماماً، فهي قد ولّدت شعور عام لدى الناس بأن جميع الفصائل الإسلامية الموجودة في الساحة السودانية (التي شاركت والتي لم تشارك) ما هي إلا واجهة من واجهات سلطة الإنقاذ التي أذاقتهم الأمرّين.
نقطة أخيرة تجدر الإشارة إليها وهي أن جميع الآراء الواردة في هذا الاستطلاع لا تعبِّر بالضرورة عن الجماعة التي ينتمي إليها صاحب الرأي، بقدر ما تعبِّر عن رؤيته الشخصية للموضوع.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس