في ذكرى الاستقلال.. الاستعمار الجديد يكشر عن أنيابه
حسن عبد الحميد
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الخامسة والستين لاستقلال السودان وإعلان ميلاد جمهورية السودان المستقلة عن دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا، وقد استمر احتلالهما للسودان أكثر من خمسة عقود ونصف منذ أن تكالبت قواتهما المشتركة لإجهاض دولة المهدية الإسلامية في كرري في الثاني من سبتمبر 1898م.
وكان المؤمل من جيل الاستقلال أن يرفع الراية التي سقطت في كرري ويواصل رحلة الاعتزاز بالذات التي رسختها الثورة المهدية استنادا إلى تاريخ عريق من القيم السودانية المستندة أساسا إلى قيم الإسلام منذ دول السلطنة الزرقاء، والفور، والمسبعات، وتقلي، وغيرها، لكن رواد الاستقلال لم يفعلوا ذلك لأسباب كثيرة يضيق المجال عن استقصائها.
إن جوهر الاستقلال وحقيقته ينبعان من اطّراح تركة المستعمر في كل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأهم من ذلك الفكرية والعقدية، والمضي نحو بناء الذات المستقلة استنادا إلى قيم المجتمع وتقاليده وأعراف غالب أهله دون ظلم ولا تجاوز لبقية سكان أهالي هذه البلدة الطيبة.
رحلة المستعمر الأوروبي في ديار المسلمين خلال القرنين التاسع عشر والقرن العشرين لم تقتصر على مجرد الاحتلال العسكري والتبعية الاقتصادية والخضوع السياسي، بل عمل المستعمر الأوروبي بمكر وصبر على تغيير هوية البلاد المستعمَرة بتغيير الأفكار والتقاليد والقيم، وركز في هذا الصدد على مجالين أولاهما أكبر عنايته، وهما مجال التشريع والقانون، ومجال التعليم، وفي حالة السودان، قام المستعمر البريطاني بتغيير قوانين الشريعة الإسلامية، وإحلال القوانين العلمانية مكانها، وفي مجال التعليم لعل الأثر كان أظهر والمعلم كان أوضح بإنشائه لكلية غردون التذكارية لتساعده على تخريج ثلة من النخب العلمانية بالإضافة إلى مساعدته في مجال الحكم والإدارة بواسطة الوطنيين من أهل البلاد، وعشية رحيل المستعمر من بلادنا لم ترحل معه قوانينه، بل تم العمل بالدستور الذي وضعه ستانلي بيكر مع بعض التعديلات الطفيفة المتوافقة مع السودنة دون أن تمس الجوهر العلماني الذي انطوى عليه دستور المستعمر البريطاني.
ولاحقا وبعد مجاهدات عدة من الحركة السياسية السودانية وبجهد شاركت فيه فئات كثيرة دون أن نغمض أحدا حقه؛ تم النص في دساتير السودان المتعاقبة على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع؛ إذا استثنينا بالطبع الحقبة التي تحكم فيها الشيوعيون والقوميون العرب أوائل نظام مايو، ولم يقتصر الأمر على الدستور فقط، بل تم تأصيل قانوني بالعودة إلى قوانين الشريعة الإسلامية، ومن المفارقات أن النميري الذي بدأ يساريا متطرفا في بداية عهده؛ هو الذي ختم نهاية عهده بإقرار قوانين إسلامية ظلت تمثل اساسا لمعظم قوانين البلاد حتى اليوم.
وعودة إلى ذكرى الاستقلال؛ يبرز هاهنا تساؤل عن معنى الاستقلال ودلالاته في ظل الحكومة الانتقالية التي تسيطر على مقاليد الأمور في البلاد حاليا، ومدى توافقها مع معاني الاستقلال التي ذكرنها آنفا،وأهمها العودة إلى الذات واستصحاب روح المجتمع السوداني المستندة إلى دين غالبية المواطنين الذين يفتخرون بدينهم الإسلامي ويطبقونه في مختلف جوانب حياتهم رغم الكيد العلماني المحلي والعالمي.
أول ما بدأت به الفترة الانتقالية إقرار الوثيقة الدستورية التي تستند عليها مشروعية الفترة الانتقالية في كل قراراتها حتى الآن، هذه الوثيقة التي خلت من النص على الشريعة الإسلامية، وخلت من اعتماد اللغة العربية لغة رسمية لأهل السودان، في مخالفة صريحة لخقائق الواقع السوداني وشواهد التاريخ السياسي المعاصر والقديم، وثمة مسار آخر تمثل في الجهود التي يبذلها وزير العدل ومحاولاته تغيير قوانين الشريعة الإسلامية، بل واستهداف قوانين الأحوال الشخصية بتكوين لجنة للنظر في الأمر أقل ما يقال عنها أنها ليست مؤهلة للنظر في هذا الأمر إذ خلت من كثير من المختصين في علوم الشريعة والقانون والاجتماع مما لا غنى عنه للجنة تحاول أن تلج هذا المجال الخطير، ولعل الأمر ظاهر، وهي المحاولة اليائسة من بقايا اليسار البائس والعلمانية الدخيلة على قيمنا للعبث بقوانين الأحوال الشخصية، وهيهات أن يتم ما أرادوه بإذن الله ما دام هذا الشعب المسلم قد وعى وانتبه للألاعيب الحقيقية الكامنة وراء القرارات التي تصدر من وزارة العدل، ثم السعي من وزارة العدل لتغيير بعض القوانين لتتماشى مع القوانين الغربية وخاصة ما يتعلق بالمرأة (سيداو مثلا)، والردة، والخمور.
ولكن الأخطر من مجال القوانين؛ تلك المحاولات التي يقودها مدير المناهج وجهده في تغيير المناهج الدراسية بمناهج لا تمت إلى عقيدة أهل السودان ولا إلى قيمه بصلة، وقد تصدى له بعض المختصين في مجال المناهج وأبانوا عواره وعبثه بمناهج التربية الإسلامية والتاريخ وغيرها من المواد الدراسية، وقد ذكرنا آنفا أن المستعمر قد اهتم خاصة بمجالين مهمين في معركته ضد الإسلام والقيم الإسلامية في البلاد الإسلامية، وهما مجالي التعليم والقانون، ومن هنا يمكن لمن لم ينتبه بعد أن يستوعب الخطورة التي تنطوي على جهود كل من وزير العدل ومدير المناهج، ولا نود في هذا الحيز المحدود الدخول في تفاصيل أشبعها أهل التخصص بحثا ونقدا.
واخيرا هل يمكننا أن نحتفل بالاستقلال والمستعمر الغربي قد عاد في ثوب آخر، فبالإضافة إلى مجال المناهج، ومجال القوانين الذين أشرنا إليهما؛ تسنم مواقع هامة في البلاد رجال اعترفوا على رؤوس الأشهاد وأمام أجهزة الإعلام بأنهم هم أنفسهم الذين قادوا الحملات ضد الوطن ـ وليس ضد نظام الإنقاذ ـ فأوردوا البلاد موارد التهلكة بمساعدتهم على حصار السودان ومعاقبة أهله بتبرير وتمرير القرارات الأمريكية الجائرة.
لا يمكننا الفرحة بالاستقلال الحقيقي دون أن نعود في كل المجالات إلى هويتنا وذاتنا المتمثلة في عقيدة ودين غالب أهل البلاد وهو الدين الإسلامي الحنيف، ولا يمكن أن نطمئن وبعض المسئولين عن البلاد ينفذون ـ دون حياءـ خطط الغرب في سلخنا عن هويتنا وديننا وقيمنا.. وتلك معركة الاستقلال الحقيقي التي تنتظر أهل السودان.