
قراءة :نجاة حاطط
يعتبر كتاب منازل الظعائن للسفير الدكتور إبراهيم البشير الكباشي أحدث ما أنتجته المطابع في كتب السير الذاتية حيث يوثق صاحبه لرحلته من بادية الكبابيش وطوافه عبر أربع قارات وهي أفريقيا وآسيا وأوربا وأمريكا. والكتاب يتكون من 188 صفحة من القطع المتوسط ويصاحب الكتاب معرض للصور يوثق فيه الكاتب لرحلته التعليمية والعملية بالإضافة لصورة والده وصورة ناظرعموم الكبابيش.
أمشاج مزركشة
جاءت عتبة النص الأولى “إهداء للكتاب”، وهو مهدى إلى والده الشيخ البشير الكباشي، في حين جاء الفصل الأول بعنوان “من أين أتيت والأمشاج المزركشة”، وفيه يتحدث الكاتب عن نسبه وعن ولادة والده بحلفاية الملوك، كما أشار الكاتب إلى جده الكبير الذي أوقف حياته لرعاية خلوة لتدريس القرآن بحلفاية الملوك، ومن ثم تعرَّض الكاتب لأسرته الممتدة، كما تعرض للتشابك والتصاهر الذي جعل أسرته هذه تجمعها علائق وصلات وقربى ومصاهرة، كحال أغلب الأسر السودانية، بالقبائل الأخرى.
مدرسة المتصوفة
تناول الكاتب أشهر الشيوخ الذين تخرجوا في مدرسة والده ذات الأصول الصوفية، وقد أحصى منهم نحو خمسة وعشرين شيخا، وقد أشار الكاتب إلى أن الشيخ الكباشي كان يعلم تلاميذه، بعد تلقي القرآن الكريم، آداب السلوك الرشيد موضحا أن منهج التكوين التربوي الذي نهضت عليه مدارس التصوف السوداني السني، هو ذات الارتباط المتشابك بين المعرفة والسلوك، حيث يلزم الشيخ تلاميذه بحسن الابتداء بإخلاص التوبة لله، كما يعلمه عوائق الطريق عند القوم التي تنتج من أخطاء الابتداء، وتتنقل المعارف بين الشيخ وتلميذه بين جرعات تعليمية وجرعات من آداب السلوك، ومن ثم يدعوه إلى صحبة السفر؛ لأن السفر يسفر عن أخلاق الرجال، وينبه الشيخ تلميذه أثناء سفرهما إلى أي سلوك سلبي اكتسبه في زمان مضى، ويوصيه بضرورة تمثل القدوة في حياته وإنزال كل من يأتيه في منزلة كريمة، ومخاطبة القلوب بود شفيف، وإغاثة الملهوف، والصلح بين الخصوم، وتمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم”.
بادية الكبابيش
تعرض الكاتب لانتقاله من الحضر حيث كان في معية أهله بحلفاية الملوك مصوراً لانتقالهم إلى بادية الكبابيش، متعرضا إلى الطريق نحو حمرة الشيخ بالجمال والتي كانت تقضي في رحلتها نحو شهر، وكان الناس في الريف الكردفاني وقتها ينشغلون بالرعى والزراعة والتجارة، وكانت حياة البدوي في تلك البقاع تنحصر في مهمات ثلاث: الحيوان والمرعى والماء.
وأشار الكاتب إلى أن قبيلة الكبابيش قوامها أكثر من خمسين فرعا ومنهم المنتمي نسباً؛ للدواليب والركابية كالنوراب، ومنهم من يلتقي بالشايقية والجعليين والجموعية، ومنهم من تمتد به آصرة القربى للقبائل الليبية كأولاد سليمان.
وتناول الكاتب البيئة في منطقة بادية الكبابيش حيث كانوا يسكنون بيوتا من الشعر موشحة جنباتها بالسواد، منصوبة عمادها، مشدودة بحبال ثمانية يحيط بالبيت حزام من نسيج صوفي يسمى الكدان تغزل خيوطه من صوف الماعز، ولا تتجاوز مساحة البيت بضعا وعشرين مترا، وهو صناعة نسائية خالصة.
نقطة ضوء
لعل أبرز ما تعرضت له السيرة الذاتية في كتاب “منازل الظعائن” عصامية الكاتب حيث غير مسار حياته بعد أن قُبِل في مدرسة صناعية بمدينة الأبيض. وكان أن أخبره أستاذه بأنه لا يمكنه بعد التخرج في المدرسة الصناعية تلك دخوله الجامعة، والتي كانت تمثل له حلما أساسيا، وقد أخبره معلمه بأنه لايستطيع تحقيق حلمه إلا إذا عاد العام ليمتحن من المدرسة الأولية ثم ليدخل المدرسة الوسطى، ومنها الثانوي فالجامعة، ولكن لأنه أضاع عامين، على حد تعبير أستاذه، في المدرسة الصناعية فإن عمره سيصبح كبيرا بالمقارنة مع أقرانه، وألمح الأستاذ إليه بأن يواصل الدراسة بالمدرسة الصناعية ثم ليقنع بأحد المسارين؛ فإما التجارة أو البرادة، ولكن الكاتب اختار أن يدرس وحده ليحقق مطلوبات امتحان الدخول للمدارس الثانوية، وكان عليه أن يدرس ثمانية كتب بما فيها مقررات الجغرافيا والتاريخ والأدب الإنجليزي، وقد ساعد الكاتب في قراره هذا أستاذاه بلة حمدـ وصالح محمد مكين، اللذان دفعا الكاتب للنجاح، ووقفا بجانبه حتى نجح وأهَّله نجاحه لدخول مدرسة وادي سيدنا الثانوية.
توجه سياسي
في الفصل المعنون في الكتاب باسم الجامعة أعلن الكاتب عن توجهه السياسي حيث التزم في سلك الحركة الإسلامية، التي كان منسوبوها يسيطرون على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، في ذلك الوقت، ويرأسه أحمد عثمان مكي، فيما رأس الاتجاه الإسلامي عن جامعة أمدرمان الإسلامية عبدالقادر الفادني، ورأس عبدالله عثمان الحاج رئاسة الاتجاه الإسلامي لاتحاد طلاب معهد الكليات التكنولوجية (جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا) حاليا، وحافظ جمعة سهل في معهد المعلمين العالي.
وتحدث الكاتب عن الحراك الطلابي للحركة الإسلامية في ذلك الوقت، إبان حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، ونشاطه وسط مدارس الثانويات حيث برزت فاعلية الحركة بمنطقة أمدرمان، إذ تولى قيادة الاتجاه الإسلامي فيها الطالبان بمدرسة أمدرمان الأهلية وقتئذ حسين خوجلي، ومحمد علي محمد عبدالفضيل.
أسفار وترحال
تحدث الكاتب عن تسفاره الذي ابتدره باليمن السعيد في وظيفة في قسم الإصلاح الإداري بوزارة الخدمة العامة، ومنها أزمع السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لعمل رسالة الماجستير في إحدي جامعاتها، ثم الدكتوراه، بعد ذلك ثم تحدث الكاتب عن سفره إلى سويسرا، ومن ثم عودته للخرطوم.
طرح مبكر لفكرة السلطة
سرد الكاتب في ثنايا الكتاب كيف أن الحركة الإسلامية كانت تفكر في كيفية استلامها للسلطة منذ أواخر عهد مايو، حيث ذكر المؤلف أنهم في اجتماع راتب لهم عام 1985م، بمنزل الدكتور علي الحاج كان هناك سؤال حول أنسب النظم السياسية والإدارية التي تحقق الرضا المجتمعي إذا آلت للحركة السلطة، وقد أضاف الكاتب بأن الحركة الإسلامية وقتها كانت تعمل بمقتضى خطة استراتجية تقوم على برامج مرحلية تسلم كل مرحلة ما أنجزته للأخرى، وقد انبرى الكاتب للرد على هذا السؤال.
ما بعد السلطة
تحدث الكاتب بصفته أحد المنتمين للحركة الإسلامية عن الأحوال المعيشية التي سبقت 30 يونيو 1989م، مشيراً إلى ما أسماه “التدحرج المتهاوي لأحوال البلاد”، بالإضافة لتمدد التمرد المسلح بقيادة العقيد د.جون قرنق، وكان الكاتب، وقتها، بالمملكة العربية السعودية، ولكنه عاد منها نهائيا في يونيو 1990م، وفي ختام ذلك العام صدر قرار رئاسي باختيار الكاتب ضمن لجنة سداسية لدراسة تقسيم المحافظات والتوجه إلى الحكم الفيدرالي، وبعدها عُيِّن الكاتب مديراً لهيئة الاستثمار وفق قرار جمهوري أيضا، ومن ثم عُيِّن في وزارة الخارجية بإدارة التعاون الاقتصادي، وطلب منه أن يغادر إلى ماليزيا، ومنها إلى رئاسة البعثة القنصلية بالمملكة العربية السعودية.
شهادة في حق رئيس
تحدث الكاتب عن زيارته للرئيس الأسبق جعفر نميري في عام 1994م حيث التقاه في جدة، وسجل الكاتب في شهادته عنه بأنه كان يمتاز بالنزاهة وعفة اليد، مشيراً إلى أن الرئيس نميري كان يتأفف في سبيل تدبير معاشه اليومي من يد يحس فيها أدنى قدر من المنة، وختم الكاتب حديثه بعبارة (جزى الله أبناء دنقلا، أبناء عمومته، خيرا فقد نهضوا بواجب كفاه مسغبة تلك الأيام).
نظارة حزبية
كثير من النقاد يعتبر السير الذاتية الناجحة هي التي يتم الحديث فيها بتجرد تام وصدق، ورغم أن الكاتب في هذه السيرة كان يرتدي نظارة حزبه في الحديث عن الكثير من الأمور إلا أنه بدا صادقاً عند الحديث عن نبإ تلقاه بإقالته من وزارة الخارجية إذ شكر صديقه الذي أبلغه بالنبأ ثم توجه إلى السجادة التي كانت مبسوطة بأن يلزمه الله الثبات وأن يأجره خيرا مما أخذ، وفي هذه الحادثة وغيرها من الفقرات يبدو الصدق السيري واضحاً فيها.