كاتب ومقال

أ.د محمد وقيع الله يكتب .. أكثر من خمسين عاما على حادثة العجكو

نظرة إلى دلالاتها على اتجاهات التحول الاجتماعي في السودان

محمد وقيع الله أحمد

على رغم الأهمية الشديدة لهذه الحادثة المفصلية التي وقعت في قاعة الامتحانات الكبرى بجامعة الخرطوم في مثل هذه الأيام قبل أكثر من خمسين عاما إلا أن أكثر أبناء الجيل الحاضر لا يعرفون شيئا من أخبارها وإن كانوا بحمد الله تعالى يستمتعون بثمارها التي نرجو ان يستمتع بها أبناؤهم وأحفادهم بإذن الله.

أجواء التغريب السابغ
في تلك الآونة كانت أجواء التغريب سابغة في جامعة الخرطوم. تظلل مناهجهاالدراسية، وتعشش في عقول أكثر مدرسيها وإدارييها. وكان اليسار السياسي والثقافي ممثلا في تنظيم الجبهة الديمقراطية المرتبط بالحزب الشيوعي السوداني، وتنظيمات القوميين العرب المرتبطة بمصر الناصرية، وتنظيمات القوى الإشتراكية المرتبطة بقوى أجنبية أخرى، تسيطر على قطاع كبير من العمل فوق/ الأكاديمي الطالبي، وتتناسى خلافاتها مهما كانت حدتها لتتحد في مواجهة الحركة الإسلامية الطالبية، المتجلية في تنظيم الإتجاه الإسلامي، وواجهته الفكرية التأصيلية المسماة جماعة الفكر الإسلامي، وهي الجمعية التي غابت أو غيبها الإسلاميون منذ حين، ونرجو أن يعاد إحياؤها وتنشيطها في الأوساط الحركية لما يسمى بتنظيم الطلاب الوطنيين الإسلاميين، لأنهم باتوا في أشد الحاجة إلى مواصلة العمل الفكري التأصيلي، ليس لمواجهة التحديات القديمة، مثل تحدي التحلل الاجتماعي الذي أثارته حادثة العجكو، وإنما لمواجهة التحديات الجديدة تثيرها نفس القوى اليسارية التي افتعلت ذلك التحدي الصاخب، وهي تتظاهر الآن لافتعال تحديات أشد صخبا تتمثل في إثارة النعرات العنصرية في البلاد.
وكما انتحلت القوى اليسارية المتغربة مصطلح التطوير لتمرير مشاريع التحلل الإجتماعي يومذاك، فإنها وقد جددت اليوم صلاتها المريبة بالغرب الإمبريالي الصليبي المتصهين، أمست تنتحل مصطلح قوى التهميش والقوى المهمشة لتمرير مشاريع تفكيك وحدة البلاد الآن.
وهذا هو المعهود دوما في قاموس قوى التخريب اليساري التي تستخدم أبدع التسميات لتغطية أبشع المؤامرات. وقد كان لمصطلح التطور والتطوير قبل أربعين عاما وقعه المحبب في الأسماع والقلوب، وكانت تلك النخب اليسارية المستأسدة في الجامعة مستعينة بجو التغريب العام الذي أسلفنا الإشارة إليه، تمضي قدما في تجرئة الطلاب على تحدي ثوابت تقاليد البلاد والاستهزاء بها والخروج عليها.
وجاءت حادثة رقصة العجكو تمثل مفصلا مهما بل هو الأشد أهمية من مفاصل الصراع بين الفكرتين الإسلامية واليسارية في توجيه مصائر السلوك الاجتماعي للطلاب ولسائر شباب البلاد، لأن جامعة الخرطوم كانت وربما لم تزل تمثل المؤثر الأكبر في توجيه مسار البلاد على صعد السياسة والاجتماع.

وصف الحادثة
وقعت تلك الحادثة في نطاق مهرجان فني أثارت برامجه التحضيرية ريبة شباب الإسلام بالجامعة، فاعترضوا على بعض فقراته الجريئة التي تقدم رقصات غير محتشمة، تؤديها الطالبات اليساريات والمنخرطات في تيار الجبهة الديمقراطية.
وقد قام ممثلو الاتجاه الإسلامي وجماعة الفكر الإسلامي بتسليم المشرف على شؤون الطلاب تحفظاتهم واعتراضتهم على تقديم مثل تلك الرقصات المخلة بالآداب في الاحتفال. وقد قبل المشرف هذه التحفظات الغيورة المنطلقة من الدين وأعراف البلاد، واتخذ قراره بمنع تقديم مثل تلك الرقصات، ولكن هذا المشرف مع أنه كان مفكرا يمينيا معروفا مخالفا لليسار، ومقارعا له على المستوى الفكري والسياسي، إلا أنه في هذه المسألة الاجتماعية الأخلاقية بدا متواطئا مع جماعات اليسار، ولم يبد عزما على اعتراضهم على قراره الذي حملته على إصداره في حقيقة الأمر القوى الإسلامية، وقضت عليه بأن يقوم بتوجيهه لليساريين لينفذوه.
وقد استخدم الإسلاميون منطقا جيدا واجهوا به ذلك المشرف، لم يسعه مقاومته إذ قالوا له: ماذا تقول لأولياء الطالبات إذا جاؤوك وسألوك كيف سمحت لبناتهم وأنت المشرف على شؤونهن بأداء مثل الرقصات على مرأى من الطلاب وضيوف المهرجان؟ فأسقط في يده، وأخلى مسؤوليته بإصدار ذلك القرار الذي لم يتابع تنفيذه بجد.
ومهما يكن فإن تحفظات الاتجاه الإسلامي واعتراضاته لم يتم الإلتزام بها على أرض الواقع، وخرجت الراقصات السافرات يؤدين على المسرح العريض رقصا غير كريم، ووقف طالب كلية الآداب عبد الرحيم على المعروف الآن بلقب الشيخ أو البروفسور أو رئيس مجلس الشورى الحركة الإسلامية وغير ذلك من الألقاب هاتفا: أوقفوا هذا العبث، وماهي إلا لمحة كرجع الصدى وإذا بالكراسي تنهال من كل حدب وصوب.

صدى الحادثة
لقد كان اليساريون مهيئين كعادتهم لاستخدام العنف ضد خصومهم من غير موجب أو مبرر إلا داعي الردع والإرهاب، وثارت عى إثر ذلك الفوضى العارمة في الجامعة، واشتعلت المعركة الثقافية والاجتماعية الكبرى التي شغلت الصحف والأحزاب السياسية والبرلمان والشارع السياسي الذي غدا يموج موجا بالتظاهرات التي خرج بعضها لتأييد باطل اليسار وزيفه بينما خرج بعضها الآخر لتأييد شباب الإسلام بالجامعة أولئك الذين كانوا يذودون عن قيم البلاد.
وقد لعب الإعلام المكتوب الذي كان يسيطر عليه اليسار، دورا كبيرا في مؤامرة التضليل التي رمت إلى تصوير الإسلاميين في صور شوهاء للتخلف والتعصب ومناوأة التطور. وتولت صحف الأيام والميدان وأخبار الأسبوع، أكثر عبء التضليل، وقد قاومتها صحيفة واحدة هي الميثاق الإسلامي التي نطقت بكلمة الحق التي بقيت في الأرض ولم تذهب مثل كلم اليساريين جفاء.
وأنضجت تظاهرات الشارع السياسي والكثير منها انطلق من المساجد ضمائر المسلمين المتقين، وزادتهم يقينا على يقينهم، لم ينطل عليهم زخم الإعلام المتحيز، ولا بيانات التأييد المتكاثرة ولا الحملات التضامنية التي انطلقت تعضد باطل اليسار، وما أكثر تلك المنظمات الصغيرة التي لم يكن لها وجود ذو شأن والمنظمات الوهمية التي دبجت وأصدرت يبانات تضليل الرأي العام وتبرئة اليساريين وتجريم الإسلاميين.
ولكن بقيت العقلية الإسلامية الطالبية الجامعية مدركة تماما لحقيقة المعركة، التي هي معركة تحول اجتماعي حضاري، لا مجرد سباق أو صراع سياسي انتخابي، مع الحركة اليسارية، التي مَرَدَت على دغدغة شهوات الطلاب ومشاعرهم بمثل تلك المهرجانات المتبذلة بغية كسب أصواتهم في الانتخابات.

كتاب حدد المسار
وفي ثنايا تلك الأيام الصاخبة بالأحداث والتظاهرات أصدر الإتجاه الإسلامي كتيبا وثائقيا فكريا مهما جدا يمثل أحد أهم أدبيات الحركة الإسلامية السودانية، وقد ظللت أحتفظ بهذا الكتيب لعشرات السنين حتى إذا احتجت إليه اليوم لأنظر فيه لم أتمكن من استحضاره من مكتبتي البعيدة عني ولا من أي مصدر آخر، وقد كنت هاتفت البروفسور عبد الرحيم علي قبل أسابيع، وسألته إن كان هو محرر هذا الكتيب، لأني لمست أسلوبه فيه، فأفاد بأنه قد كتب جزءا منه، بينما كتب الجزء الثاني شخص آخر، لا أريد أن أذكر اسمه لأني لم أستأذنه، وهو على حال أحد قيادات المؤتمر الوطني وأحد نوابه بالبرلمان. وعلى كل فأرجو أن يجد هذا الكتيب اهتمام دارسي تاريخ الحركة الإسلامية السودانية ومحللي تاريخ حركة التحول الاجتماعي في البلاد. وهو كتاب علمي ذو مدخل نظري ممتاز اعتمد على ما يعرف الآن في أدبيات علم السياسة وغيره بنظرية التمدن
Modernization Theory
ولم يكن ذلك المدخل العلمي شائع الاستخدام كما هو الآن، الأمر الذي يدل على أن أبناء الحركة الإسلامية ما كانوا متخلفين عن روح العصر كما شاءت أن تصورهم “أيام” تلك الأيام، وإنما كانوا أرباب حداثة وتطور مثلما كانوا دعاة أصالة وتدين.
وبخصوص هذا الكتيب القيم فإني أسدي رجاء حارا إلى من قد تكون لديه نسخة منه أن يتكرم بتزويد إحدى الصحف بعرض عام له، بمناسبة مرور أربعة عقود على صدوره، وأن يقوم بتقويم أطروحته على ضوء إفادة هذه السنين التي هي دهر طوال.

نفاذ واستبصار
ولكن هذا لا يمنع من أن أبذل جهد المقل فأذكر نزرا من كلمات في هذا المقال. لقد اتهم محررا الكتيب الحركة اليسارية بأنها وإن أظهرت عداء الغرب إلا أنها كانت تقوم بشكل واع أو غير واع بتنفيذ مخططات تغريب البلاد وتتبيعها حضاريا لأعدائها وأعداء دينها. ولا أدري إن كان محررا الكتيب على صلة بفكر المحلل الحضاري العظيم محمد جلال كشك أم لا، فهو أبرز من انخلع عن ربقة الحركة الشيوعية وأبرز من رماها بهذه التهمة مؤكدا أن الغرب بتاريخه السيئ في عداء الإسلام لا يملك إلا أن يستخدم وكلاء له من زمر اليسار لقيادة معركة التقاليد في البلاد الإسلامية، وإن لم يكن محررا الكتيب على صلة بفكر العميد كشك، فهذه دلالة فطنة واستبصار خاص كشفا به خبايا المعركة وأماطا بها لثامها، وعريا مؤامرة استخدام اليساريين للفولكلور أسوأ استخدام لمحاربة الدين.

مؤامرة استغلال الفولكلور
إن أحدا لا يعترض على تدريس الفولكلور والاهتمام به، فهو جانب مهم من ثقافة الشعب الباقية عبر التاريخ، ولكن إذا أراد بعض دارسيه ومدرسيه أن يستغلوا النواحي الفاسدة والفاضحة من هذا الفن الشعبي ليعلوا قدرها على نواح اخرى تتسم بالحشمة والاستقامة النسبية، فهذا أمر يخرج من إطار الدراسة الأكاديمية الرصينة البصيرة المحايدة إلى حيز الاستغال التبشيري لخدمة أهداف ٍآديولوجية غير أخلاقية مشبوهة، وهذا ما دأب عليه الشيوعيون طوال عهد صراعهم غير الموضوعي وغير الفكري مع الحركة الإسلامية. وهذه الحركة الاخيرة وإن كانت قليلة الإهتمام بالفولكلور أو شبه عديمة الاهتمام به، إلا أنها كانت شديدة الانتباه إلى نزوع الشيوعيين إلى استغلال الفن الهابط لتحيق أهدافهم بعيدة المدى في تخريب أخلاق الشعب ومنعهم من تحقيق تلك الأهداف.
وقد استطاعت تلك العصبة المؤمنة بجامعة الخرطوم أن تتحدى سيل الفساد الجارف، ولا نقول إنها أوقفته أو صدته تماما فذلك أمر عسير المنال، ولكن كانت تلك الوقفة الباسلة معلما مهما من معالم طريق نضال الحركة الإسلامية السودانية في المجال الاجتماعي، وقد توالى إرساء تلك المعالم قدما على نفس طريق التمدن الإسلامي الذي أشار إليه الكتيب الذي أشرنا إليه قبل قليل. وهكذا ظلت الحركة الإسلامية السودانية المباركة تحقق بصبر ودأب وحزم متدرج أهدافها بعيدة المدى في إرساء أسس الخير .
ولا ينكر إلا الحمقى على الحركة الإسلامية السودانية انتصارها الكبير على هذا الصعيد، حيث تكفي الآن نظرة واحدة يلقيها إلى الحرم الجامعي من كان له به عهد قبل أربعين أو ثلاثين عاما، ليتأكد له مدى التحسن الكبير الذي طرا على مظهر وسلوك أبنائنا وبناتنا من الطالبات والطلاب وتتأكد له مدى جدية وأصالة انضباطهم بأطر الشرع الإسلامي والتقاليد السودانية التى تعلى قيم الاحتشام.

النقلة السلفية المباركة
وإنها ليست نافلة من نوافل القول أن نستطرد لنقرر حقيقة أخرى من حقائق التحول الإجتماعي الإسلامي بجامعة الخرطوم تتصل ببروز نشاطات الحركة السلفية فيها. وإنها لملاحظة رائعة تلك التي تبرزها خطوات الحركة السلفية المتقدمة على حركة الطلاب الوطنيين الإسلاميين ورثة حركة الإتجاه الإسلامي التي بدأت تلك المجاهدات، فقد غدا هؤلاء السلفيون الدعاة الكرام أشد عناية بهذه النواحي الاجتماعية الإخلاقية ممن قادوا النضالات الأولى فيها، وفي كل خير.
وقد شكا لي قبل آونة أحد أصدقائي من قادة الحركة الإسلامية من أبناء الجيل الرابع قائلا إن ابنته الجامعية قد اتخذت لها نقابا واتبعت سبيل السلفيين، فقلت له: دعها لما اختارته لنفسها من شأن، ومالك معها من شأن، دعها، وإن أرادت أن تتخذ نقابا آخر فوق ذلك النقاب فما هو إلا خير فوق خير.

 

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى