(حوار) الروائية ملكة الفاضل للطابية: لن تتمدد الرواية على حساب الشعر فلكل عالمه ومريديه
حاورتها : نجاة حاطط

الروائية ملكة الفاضل اسم كبير في عالم الروائيان السودانيات وهي من القلائل اللائي حفرن أسمائهن بمداد من نور في دفتر الأديبات السودانيات اللائي تحكّرن خلف مقود السرد .. حيث بدأت مسيرتها الأدبية بروايتها “الجدران القاسية “، والتي حفرت عميقا في السجون والمعتقلات، وماخفي فيها، والتي طبعت في عام1999 .. كتبت بعدها “في مكان ما” و”الشاعرة والمغني” التي فازت مؤخرا في مسابقة الطيب صالح للإبداع الروائي الكتابي ..لها إسهامات مقدرة في مجالي الشعر والترجمة ..في هذا الحوار الشفيف تحدثت ملكة عن الكثير المثير الذي تجده في ثنايا الحوار ..
“الجدران القاسية”كانت مخطوطة على الورق ولم أجد من يقوم بجمعها بسبب المحاذير
*دعينا نبدأ من روايتك الأخيرة “الشاعرة والمغني ” التي فازت بجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، هل أضحت المسابقات الأدبية موسم تحفيز للكاتب باعتبار أنه سيجني ثمار فنه بقيمة مادية ومعنوية؟.
المسابقات ظلت منذ أوقات طويلة محفزة للمبدع، خاصة الذي، أو التي، يكون على غير وعي بما لديه من ملكات. المسابقات تظهر هذا الجانب. مسابقات المدارس والجامعات والصحف وغيرها كان لها قصب السبق في هذا الجانب. أنا مثلا أظهرت مسابقة مدرسية في في مجال القصة القصيرة، وأخرى في الشعر، ما لديّ من استعداد فطري، ونبهتني للمواصلة في الكتابة.. الجانب المعنوي في نظري أكثر أهمية لأنه يبعث فيك روح الثقة، مثلما يحدث عندما تنشر لك إحدى الصحف مادة أدبية لأول مرة. كاتب انجليزي أصدر كتابا عن المسابقات في مجال القصة وأعلن أنه لا يتوانى عن المشاركة في أي مسابقة وكثيرا ما يفوز ويعتبر الجائزة تحفيزا له لمواصلة خوض غمار المسابقات بغض النظر عن قيمتها المادية.
مسابقات الكتابة الإبداعية، التي يدور حولها لغط كبير متى ما أعلنت نتيجتها، ظلت تلعب دورا كبيراً في الدفع بأسماء في عالم الرواية، أو أي جنس أدبي آخر للقراء، وهذا لم يكن ليحدث لولا دفع المتسابق أو المتسابقة بعمله للجان التحكيم بعد إخراجها من الأدراج أو جوف الحاسوب.
أيضا أنبه إلى أن عدم الفوز لا يجب أن يكبح جماح النزعة الطبيعية للكتابة، بل قد يكون محفزا للاستمرار، هو نوع من التحدي الجميل.. وأن يفوز عمل ما لا يعني أن كل من يقرأه سيوافق هواه، وهذا أمر طبيعي. لكن إن أردت المشاركة في مسابقة فلابد من الاطلاع على شروطها الواضحة والتأكد من أن ما تتقدم به يتفق مع تلك الشروط. ومن هذا المنبر أود أن احث أهل الإبداع والشباب على المشاركة في أي مسابقة محلية أو إقليمية أو غيرها، وأتمنى أن تكون هناك جهة إعلامية تنبه لمثل تلك المسابقات والإعلان عنها.
لكن من البديهي أن يكون الكاتب الروائي، في معظم الأحوال، لا يجلس ليكتب رواية، لانه يريد المشاركة بها وإنما تكون الرواية موجودة عند الإعلان عن مسابقة، وقد يكمل رواية لم تكتمل ويشارك بها. وقد يحمل صديق له مخطوطته ويدفع بها من دون أن يخبره !.. ظروف مختلفة تكون وراء المشاركات، وتظل النزعة للكتابة هي الظرف الأكثر الحاحا دون غيرها.
*روايتك “الجدران القاسية ” لاقت رواجا كبيرا باعتبارها اشتغلت على ثيمة التعذيب في المعتقلات ..هل واجهتك أي مشكلات بعد نشرها خاصة وأن الفترة التي نشرت فيها الرواية كانت تضج بحكاوي التعذيب والاعتقالات في ظل النظام الشمولي الذي كنا نرزح تحت ظله ؟
– كتبت الجدران القاسية، أولى رواياتي، ولكنها طُبعت في القاهرة عام ١٩٩٩ ووزعت في الخارج. لم تواجهني أي مشاكل داخل الوطن بعد نشرها، ولكن المتاعب كانت في فترة ما قبل الطباعة.. كانت مخطوطة على الورق، ولم نجد من يقوم بجمعها بسبب المحاذير آنذاك، فقد أخبرنا بعض العاملين في مجال الجمع أن أفراد الأمن يقتحمون المكاتب في أي وقت ويفتحون أجهزة الكمبيوتر ويطلعون على المواد المدرجة فيها.. كان الأمر غريبا لأنها كانت مجرد رواية، ولكن الواقع الذي ساهم في كتابة الرواية هو ذات الواقع الذي عرقل مسالة جمعها وبمساعدة أصدقاء أعزاء، تمكنا من طباعتها وغادرت بها إلى القاهرة حيث طبعت الطبعة الأولى، ووزعت فقط في القاهرة ومعارض الكتاب بالخليج.
بعدها بسنوات خفت قبضة الأمن على القطاع الثقافي، وكتب البعض عنها، وتناولتها الصحف والمنتديات الثقافية بالنقاش والتحليل. وكما أشرت تبقى الشمولية عائقا بما تفترضه من تهديدات تبرز من بين السطور، والكلمات والقوافي. أذكر أن المرحوم د.بشرى هباني كان له رواية وحيدة هي مسرة وعدة قصص قصيرة من بينها قصة بعنوان الديناصور والقرود، وكان ان نشرتها مجلة عربية، فكتب عنها أستاذ بجامعة الخرطوم تحليلا، دفع ثمنه المؤلف حبسا باعتبارها ضد نظام مايو آنذاك، هكذا هي الشمولية، تفزعها الكلمة.
*كيف كان رد فعل القراء والنقاد حول الرواية ؟
– أول من كتب عن الرواية الأستاذ فيصل محمد صالح في ثلاثة حلقات ضافية من عموده في صحيفة الخرطوم، التي كانت تصدر من القاهرة وتوزع في دول الخليج، ولا تصل الخرطوم بمنافذ التوزيع المألوفة.
ثم تناولها الأستاذ أحمد عبد المكرم أيضا في عرض في صحيفة الخرطوم، وفيما بعد تناولها بالتحليل العديد من الأسماء التي لها صيتها في مجال النقد والأدب؛ مثل البروف محمد المهدي البشرى، والأستاذ محجوب عيدروس، ود.كامل إبراهيم، تغمده الله بواسع رحمته، وأيضا الأستاذ عزالدين ميرغني ويسعدني أن أقول إن ما قيل عن الرواية كان بمثابة دفعة معنوية لي، بعد المشقة التي لاقيتها أثناء كتابتها وطباعتها.
*كيف تنظرين لعين النقد؟
– أمامي على الدوام ناقدان: الناقد الذي يكتب ويتحدث عن العمل الأدبي باعتباره ناقداً ملما بخفايا النقد ومتطلباته، والناقد الآخر، هو القاريء العادي الذي يعبِّر عن وجهة نظره الشخصية، وهذا أو هذه قد يكون معك في البيت أو يلاقيك في مكان عام، وعندما يتعرف عليك يلقي إليك برأيه ووجهة نظره بتلقائية محببة وصراحة تجعل قبول وجهة نظره أمرا طبيعيا. أحد الشباب الذي تحدث عن الرواية في ندوة البشير الريح، قبل سنوات كان يبدو عليه الغضب وهو يقول أنني جعلت من أحد ضباط الأمن شخصية خيِّرة!!.. وقال إنه لا يوجد رجل أمن طيب، مثل الرائد الطيب وهو شخصية رئيسية في الرواية.
الطريف أن هناك من اعتبر وجود مثل هذا الشخص الطيب وسط الأشرار هو أمر طبيعي ومتوقع في أي مجتمع.. وهكذا تتباين الآراء لتثري حصيلتك باعتبارك كاتبا تهمه التفاصيل.. الأستاذ الاديب فضيلي جمّاع أول من أشار بملاحظاته الصريحة حول الرواية وهي مسودة وقد كانت سببا في حسم ترددي والدفع بها للنشر.. المهندس عثمان أحد روّاد بيوت الأشباح اتصل بي هاتفيا بعد أن قرأ الرواية ليقول لي “كانك كنت هناك”.
*إنت شاعرة – لك قصائد بالفصحي والعامية – هل اتجاهك للرواية جاء من باب أن “الشعر لم يعد ديوانا للعرب ” وربما حلت الرواية مكانه؟.
– السؤال عن الشعر والرواية، لن تتغول الرواية أو تتمدد على حساب الشعر.. فلكل عالمه ومريديه. بالنسبة لي لم اتوقف عن نظم القصائد، بما فيها كما ذكرت، الفصحى والعامية.. وربما كنت مقفلة بعض الشيء. لكن لدي عدد من القصائد قد تكفي لتكوين مجموعة أو ديوان.
القصيدة مثل الرواية عندي، اندفع إليها عندما يكون هناك موقف مستفز يجعل كلمات الشاعر الفذ مصطفى سند تتردد” عذاب الأخرس المخنوق” حتى ترى الكلام أمامك على الورق.
*كثيرا ما يسقط النقاد “كتابات المرأة ” على واقعها، ودونك ما حدث للروائية الرائدة ملكة الدار محمد حينما قارنوا بين حياتها وما كتبته في روايتها “الفراغ العريض ” .. برأيك لماذا يلجأ النقاد لهذه الإسقاطات خاصة عندما يكون الكاتب امراة؟.
– سؤال مهم وربما كانت هذه الحقيقة سببا في إحجام العديد من أهل الإبداع عن الدفع بأعمالهم للمتلقي..المرأة لها النصيب الأوفر من هذه الإسقاطات، لأن خوضها مجال الأدب باجناسه المختلفة ظل خجولاً، يشوبه التردد ويقابل بالاستغراب إن لم يكن الاستنكار، كما حدث لملكة الدار..هذا بالإضافة لحقيقة أن هذا الإسقاط قد ينطبق على الروائي أو الشاعر.. كثير من القصائد أو الأغاني تنسج حولها قصة أن الشاعر أعجب بسلامة وخلدها بتلك القصيدة أو الأغنية، وربما يكون الشاعر المعني لم يتلق بتلك الشخصية أبدا!.. وربما كانت المناسبة مختلفة تماما وهكذا. هي ملكة التخيل فقط.
وهناك من يبحث بين فصول الرواية ليثبت أن أحداثها ليست سوى أحداث مر بها الكاتب أو الكاتبة وشخصياتها تربطها بها علاقة أو صلة. وهذا ما لمسته في مقالات عن كاتبة رواية جين إير إذ ربط الكاتب بينها وبين شخصيات في حياتها.. وهكذا صار “مصطفى سعيد” في الرواية الخالدة موسم الهجرة إلى الشمال أحد أصدقاء الطيب صالح وبعضهم حدده بالاسم. الكاتب ابن بيئته وقد تلهمه بعض الأحداث ولكنها ليست بالضرورة حكاية عن أشخاص حقيقيين أو تجارب مر بها الكاتب. بالنسبة لي لم يكن مفاجئا تصريحات البعض في أحد المنتديات أن روايتي الأولى لا بد أن تحمل بعضا من حكايتي أنا.
*كيف تنظرين لواقع السرد السوداني في مارثون السرد العالمي وهل استطاع الأدب السوداني أن يجد له مؤطي قدم في العالم في وقت أضحى فيه العالم قرية صغيرة ؟
واقع المشهد الثقافي السوداني بسردياته المختلفة يعجبني أنها تسير بوتيرة أسرع وأكثر ثباتا في السنين الأخيرة، وباتت أكثر حضوراً في المحافل الثقافية إقليمياً، وأسماء عديدة تقدمها المسابقات وأخرى تقدمها المشاركات وبعضها تدفع به الأسافير، ومع ذلك فأنا أشعر بأن ما ينقص المبدع السوداني، أو المبدعة، الترويج المناسب لأعماله.. محليا أو في الخارج.
*إذن كيف يروج المبدع لأعماله ؟
أحد أهم آليات الترويج التي نفتقدها هي الترجمة .. لا بد من اجتهاد من جانب أهل السرد والمهتمين بهذا الجانب، هناك أعمال لا تقل في تميزها عن أفضل الروايات العالمية إن وجدت طريقها للمتلقي . لكن لا بد من عمل جماعي يستفيد من تجارب الآخرين في هذا المجال، علينا ألا نقنع بفرصة إصدار رواية فقط ونكتفي.
*كثيرا ما يتحدث النقاد عن الأدب النسوي على الرغم من أن هناك بعض الكتابات التي تكتبها النساء ليست لها علاقة بالمرأة.. برأيك لماذا حشر النقاد جنس المرأة؟ الأمر الذي جعلهم “يجندروا” فيه الأدب، وهل كان هذا التصنيف من أجل التقليل من كتابة المرأة؟.
– هذا التصنيف النوعي، رغم تحفظنا عليه، إلا أننا لا يمكن أن نجعله موضع اتهام باعتبار أن المقصود به التقليل من كتابات المرأة أو تلخيصها.. هي في رأي مجرد محاولة للتصنيف، ربما يكون ولوج النساء عالم الأدب قد بدأ متأخراً تاريخياً، والإقدام يشوبه الحذر.. فقد كانت المرأة في الغرب تختفى تحت اسم رجل حتى تحظى بنشر أعمالها، وحتى الآن لا يعرف من هي فوز التي كان مجلسها بمثابة منتدى يؤمه أهل الشعر والأدب!. تحفظنا على (جندرة ) الأدب أو التصنيف النوعي من منطلق أن الهم واحد في أي مجتمع، وذلك بعيدا عن الأسوار الاجتماعية التي تجعل انطلاقة أي مبدعة مقيدة نوعا ما، لكن تلك الأسوار زالت، أو توشك على الزوال، مع طفرات التطور والحداثة والعولمة بتقنياتها المتاحة في معظم أرجاءالمعمورة إن لم تكن كلها.. واقع العصر الحالي جعل اهتمامات المرأة تتساوى مع اهتمامات الرجل، والقضايا التي تهم الرجل تهم النساء، والهم بات واحداً، وثورة بلا نساء لا يمكن تخيلها.. إذن ما الذي جعل هناك أدب نسوي واخر ذكوري؟.. هل تكتب المرأة بحروف مختلفة أم أن لغتها ليست ذات اللغة التي ألفناها في الإبداع باجناسه المختلفة؟ أم أن القضايا التي تطرقها الكاتبات تختلف عن تلك التي يطرقها الكتاب؟ ربما يكون هذا الفهم سائداً عند البعض، فرواية “الجدران القاسية” أوحى عنوانها لبعض القراء بأنها تحكي عن ما تلاقيه المرأة من قيود ومعاناة في المجتمع وأن تكون الجدران هي المعتقلات السياسية أمر حسب تعبير البعض أحرى بأن بطريقه كاتب وليس كاتبة.
*روايتك “في مكان ما ” تحدثت فيها عما يدور عن أجندة خفية فيما يختص بعمل المنظمات العالمية .. هل هناك دوافع بعينها دفعتك للكتابة في هذا الموضوع، خاصة أن السودان بعد معاناة إقليم دارفور كان يعج بالمنظمات العالمية؟.
– رواية “في مكان ما” لم تكن انطباعا عن المنظمات بصفة عامة، وإلا سيكون ذلك من باب التعميم المخل فدور المنظمات في (حلحلة) مشاكل الأمم لا يمكن إنكاره أو تغبيشه، لكن خبر تناولته الصحف والقنوات الفضائية العالمية عن أطفال جرى الإعداد لتهريبهم بعيدا عن أهلهم عن طريق منظمة بعينها، هو ما ألهمني أحداث الرواية، وذلك الخبر كان الحقيقة الوحيدة أما أحداث الرواية وشخصياتها ومشاهدتها فكلها وليدة الخيال، وخبر في مجلة المجلة في أوائل التسعينات هو ما ألهمني قصيدة (يمة)، ورواية الجدران القاسية وتقرير في صحيفة يومية عن قوم يسكنون في “حفرة كبيرة” ساهم في نسيج رواية (الشاعرة والمغني)، ولا أستطيع تفسير ذلك بالتاكيد.
* لديك باع كبير في مجال الترجمة ..ماهي الأضافة التي أكتسبتيها من كونك مترجمة؟
– الترجمة من أقدم وسائل المعرفة لولاها لما تيسر العبور في كثير من المنعطفات، ولما تحققت النقلات في العصور المختلفة، وهي تحد لمن يخوض مجالها، ومثل حقول الإبداع المختلفة، لا بد من استعداد فطري تصقله التجارب والدراسات وغيرها. المترجم سيجد نفسه في مأزق إن اكتفى بالقاموس فقط.. وعملية الترجمة لا تقتصر على النص وحده فلابد من المام بتقنياتها التي تتطور بتطور الأزمنة، ولا بد من إلمام بلغة المصدر والهدف وبثقافة كليهما، ولا بد من صبر وبحث ومثابرة، ومن هنا أجد نفسي في تحدٍ لا يكفي معه الاستعداد الروتيني العادي.. أنا درست لغة إنجليزية وتخرجت من كلية التربية جامعة الخرطوم، لكن ماجستير الترجمة أعانني كثيراً، وفتح عيني على تقنيات للترجمة كانت خفية من قبل، وجعلتني أعرف أن المشقة في عمل المترجم تظل حاضرة، وكذلك متعة أن تترجم نصاً جديداً. الترجمة أضافت لي الكثير بالتأكيد ووسعت من مداركي وجعلتني أكثر حرصا على تقصي المفارقات في أي نص أكتبه.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس