سياسةمجتمعمقالاتمقالات

معاش السُّـودانيين بين جشع التجار وسادية الانتقالية

الفاتح عبد الرحمن محمد

مما لا شكَّ فيه أنَّ من أولى أولويات الحكومات على اختلاف أشكالها وأنماطها وأيديولوجياتها، السعي الحثيث لتوفير حياة كريمة لمواطنيها، وذلك بتوفير أدنى متطلبات تلك الحياة من مأكل صحي ومسكن آمن وعلاج غير مكلف وتعليم للأبناء، وهذه الحقوق هي ما يشترك فيه البشر جميعاً على امتداد واختلاف الأزمنة والأمكنة، وتوفيرها لا يحتاج لكثير عناء من الحكومات، فمعظم متطلباتها تتوفر عادةَ داخل الدولة المعنية، وما لا يتوفر بها، يتم جلبه من الخارج عبر حركة التعاملات التجارية العادية، بما لهذه الحكومة من اقتصاد مستقر بصرف النظر عن حجم مداخيله من العملات الأجنبية، وإن افترضنا وجود عجز أو قصور في اقتصاديات هذه الدول، لا يكون ذلك على حساب توفير تلك الحقوق التي إن اختلت، سينعكس ذلك بصورة مباشرة وسريعة على أمن وسلامة واستقرار مجتمعات تلك الدول.
حكومة حمدوك والأجندة الخارجية:
منذ أن تسلَّمت الحكومة الانتقالية بالسُّـودان مقاليد الحكم بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الإنقاذ في أبريل من العام 2019م؛ هذه الثورة التي قامت في الأساس بسبب الضائقة المعيشية التي أوصلت إليها الإنقاذ الشعب السُّـوداني، بدا واضحاً أنَّ حكومة حمدوك الانتقالية هذه لم يكن معاش الناس مدرجاً ضمن أجندتها التي جاءت لتنفيذها في البلاد، هذا إن كان أمر معاش الناس يعنيها ابتداءً، فعمدت منذ الأيام الأولى بعد أداءها اليمين الدستورية بالخرطوم في الثامن من سبتمبر من نفس العام 2019م، إلى ترتيب أمور أقل ما توصف به أنَّها ليست من اختصاص الحكومات الانتقالية التي من المفترض أن تكرِّس جهدها لمعالجة مسبِّبات الثورة التي قامت على النظام السابق، ومن أولها معاش الناس، فبادرت للتطبيع مع اليهود الذي يبدو أنَّه أوشك على الوصول لمحطته النهائية. وفتحت على نفسها وعلى الشعب السُّـوداني باباً من الاستنزاف الأمريكي الذي يبدو أنَّه لن يُغلق في القريب العاجل، وذلك باعترافها الكامل بمسؤولية السُّـودان عن تفجير المدمِّرة الأمريكية (يو إس إس كول) في أكتوبر من العام 2000م بخليج عدن، ومسؤوليته كذلك عن تفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام في أغسطس من العام 1998م، بل وقامت بدفع تعويضات عن تفجير المدمرة كول بلغت سبعمائة مليون دولار كانت كفيلة بحلحلة جزء كبير من الضائقة المعيشية إن تم توظيفها بالشكل الصحيح، وتعهدت كذلك بدفع تعويضات تفجير السفارتين لأسر الضحايا أيضاً. كما اتجهت لتدمير الأخلاق تدميراً ممنهجاً، فأنشأت اتحاداً لكرة القدم النسائية فاتحةً بذلك باباً للشر عظيم، ولم تنس أن تحدث تغييراً في المناهج التعليمية لتتوائم مع النظام العالمي (حسب ادعائها) والذي لا يشبه نظامنا الإسلامي بأي حال من الأحوال، ودخلت في دوامة مفاوضات مع الحركات المسلحة مبررةً ذلك بأنَّ الأولوية للسلام، وهذا شيء مقبول إذا تم وفق جدول إصلاحي ممرحل، وبضوابط وثوابت لا تقبل القسمة أو التنازل، ولكن ما حدث عكس ذلك تماماً، حيث وصل قطار المفاوضات الآن لمحطة القبول بعلمنة الدولة إرضاءً لشرذمة من السياسيين لا يمثلون امتداداً مجتمعياً، ولم يقدِّموا شيئاً يُذكر لخدمة أهلهم وذويهم في مناطق الصراع بدارفور والنيل والأزرق وجبال النوبة، وغاية أمرهم التنقل بين فنادق العواصم الأوروبية المختلفة، يلتقطون فتات ما يقدِّمه لهم أسيادهم من الغرب الذين يعمدون للوصول من خلالهم إلى ثروات وكنوز السُّـودان المختلفة.
ماراثون الدولار:
وصل سعر الدولار في السوق الموازي إلى أعلى مستوياته، وتخطى حاجز الـ290 جنيهاً للدولار الواحد، لتجد حكومة الفشلة نفسها مضطرة لاتخاذ اجراءات أيّاً كانت، فأعلنت الطوارئ الاقتصادية، وراحت تنفذ اعتقالات هنا وهناك، دون أن تعالج جذر المشكلة.
وكانت نتيجة الإجراءات الحكومية؛ إحجام المتعاملين في سوق النقد، عن البيع والشراء، مما أدى لانخفاض وهمي في سعر الدولار، لم يدم إلا أياماً قليلة، ليعاود الصعود مرة أخرى، وبلغ حتى كتابة هذا المقال 250 جنيهاً للدولار، ولا يبدو أنَّه سيتوقف عند هذه القيمة، فلا توجد مؤشرات لذلك، كما أنَّ الحكومة غير مهتمة بهذا الأمر إطلاقاً.
وهذا الارتفاع المحموم للدولار أحال الأسعار بالسوق لقطعة من جهنم، فلا تكاد تسأل عن سلعة إلاَّ وتجد سعرها في ازدياد مستمر يوماً بعد يوم، والحكومة برفع يدها عن السوق وحركة الأسعار به، تركت المواطن يواجه جشع التجار بصدرٍ عارٍ، واضعةً قدم على قدم، متلذذةً بما يعانيه المواطن المغلوب على أمره من عنت ومشقة مكابداً للحصول على قوته وقوت عياله اليومي الذي أصبح أمراً عسيراً.
وعلى الرغم من أنَّه باستطاعة الحكومة ضبط حركة النقد الأجنبي بما لديها من سلطة وآليات اقتصادية، ولكن يبدو أنَّ تقاطعات المصالح التي تربطها ببعض رجال الأعمال ممن يحتكرون قوت السُّـودانيين تحول دون ذلك.

نظرية المؤامرة .. اسطوانة مشروخة:
ما أن يتم استنطاق مسؤول حكومي عن الضائقة المعيشية والتدابير الحكومية لمعالجتها، إلاَّ وتنطلق عقيرته سباً وشتماً لفلول المؤتمر الوطني الذين يقفون وراء كل الأزمات التي تمر بالسُّـودان منذ الثورة وحتى الآن، فعند سؤاله بواسطة أحد الصحفيين، أشار مسؤول حكومي بوزارة المالية إلى أن مشكلة السلع الأساسية وشحها في الولايات، ليست مشكلة ندرة، لأن أجهزة المؤتمر الوطني لا تزال تسيطر على الولايات، مضيفاً أن الحل يكمن في تعيين ولاة مدنيين لتوزيع السلع الأساسية ومحاربة السوق السوداء، وبالفعل تم تعيين ولاة مدنيين، فهل تغيَّر الحال؟ الإجابة لا بالتأكيد، فالحال يغني عن السؤال، فالأزمة الاقتصادية أحكمت قبضتها على رقبة المواطن الذي لولا لطف الله وتدبيره، للفظ أنفاسه الأخيرة منذ مدة.
إذن فالضائقة المعيشية التي يمر بها السُّـودانيون هذه الأيام لا يبدو أنَّ بوادر انفراجها ستلوح في القريب، طالما أنَّ تعامل الحكومة معها بهذه الطريقة الموغلة في اللامبالاة أو العجز عن القيام بتدابير سريعة وحقيقية، وتجاهلها لمسألة الإنتاج وتنشيط الاقتصاد الراكد بالزراعة والصناعة والتبادلات التجارية المؤسسة بطريقة علمية، وعدم انتظار الدعم الخارجي الذي لن يأتي إلاَّ بشروط قاسية، أو القروض الدولية التي لن تُمنح إلاَّ وفق موجِّهات اقتصادية مجحفة.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى