
في فبراير 2018م كنت في زيارة إلى ثغرنا الحبيب، وكنت برفقة أخينا الحبيب الدكتور عبد الله حسن من جامعة القرآن الكريم بالبحر الأحمر وأحد ظرفاء مدينة بورتسودان، وكنا في مشوار إلى سوق المدينة، فقررنا أن نستقل ركشة، والمشوار يستغرق حوالي نصف ساعة، فقررنا أن نقضي هذه المدة في إنشاد بعض الشعر، فاخترنا رائعة الدكتور محمد بادي الذي رثا فيها أستاذه الشاعر إسماعيل حسن، وهي بحق من أميز ما كتب الدكتور بادي من شعر، وأروع ما كُتب في الرثاء.
يبدأ الشاعر بادي في تصوير الحزن الذي عمّ الدنيا إثر وفاة الشاعر إسماعيل حسن، والنزيف الواسع الذي انتشر شرقا وغربا، والوجوم الذي ران على البشر، والمحنة التي جعلت الجميع يضع يده على خده حيرة
أرمي الدمعة فوق الدمعتين ياعين
وبعد الليلة حابساها الدموع لي مين
نزيف الدنيا من حد البلد شرقي
نزيف الدنيا لي حد البلد غربي
وجوم عمّ الليالي العامرة
كل الدنيا خاتة الخمسة فوق اثنين
ثم يواصل في وصف مسيرة النعش والجثمان وما جمع من خلق من سكان الحضر والريف، حتى الطيور شاركت في هذا الموكب الحزين، وضم الجمع المحزون رجالا لا يُعرف من أين أتوا وكيف وصلوا إلى هناك
وداك اليوم وداع الهودج المتهادي كان جامع رجالات الحضر والريف
طيور السافل المحزونة جات بليل تاركة جناها للريح والمطر والزيف
ودا غير الفقراء والشعّار وناس ما معروفة جات من وين ووصلت كيف
وتبكي مهيرة ست الوجعة تتنكد على النعش المفارق من كتيف لي كتيف
ثم في خيال جامع يصور الشاعر بادي الحزن الذي عمّ حتى الطيور، ويرسم لوعتها وحزنها على فقدان الشاعر إسماعيل حسن
وتبكي طويرة الأحزان صايحة يا جلابة أقيفوا لي
وما شفتوه زولا لي
تضيع صرخاتها في المجهول ويرحل من دريبة الضي
وين تلقيهو يا مسيكينة كيف تلقيهو زولك قالوا ميت وحي
آه يا طويرة الأحزان آه لو كان تعرفي البي
جرحك انت صاب الريش وجرحا لي مسافر في النسيج الحي
ثم يصور الشاعر بادي منظر حفر القبور، وحزن الرجال ولوعة النساء على الجثمان الذي يوارى الثرى
يقوم حفار قبور الليل يدق في بطن التراب إزميل
تحس بالضربة في صدور الرجال والخيل
وفي صدور البنات دم الغواني يسيل
ما دفنوك في بطن التراب والله يا اسماعيل
قبرك في قلب كل زول وقبرك في قلب كل جيل
ثم يصور لوعته وحزنه الفريد على رحيل أستاذه الشاعر إسماعيل حسن، وأن الدنيا يتغير طعمها وحتى الصيد لم يعد صيدا، وحكاوي الريد التي يحكيها واضيعتها
دريبي وحيد وحزني فريد
ومن يوم ما قفلنا الدار ورحل البلبل الغريد
أسأل لو كان سؤالي يفيد
كيف الدنيا تبقى الدنيا والصيد يبقى ياهو الصيد
ومين ينضم حكاوي الريدة واضيعة حكاوي الريد
كتاب الكون يظل مفتوح بلا خاتمة ولا تمهيد
وباهت قوس قزح محزون وناقص لون ومطرو صديد
إلى آخر هذه القصيدة التي تتجاوز مائة بيت، وهي رائعة و صادقة وممتعة، وقد استعرضنا بعضها إلى أن وصلنا سوق المدينة، وقد لاحظنا أن سائق الركشة يستمع إلينا في اهتمام بالغ ويتابعنا في حزن دفين، وعندما أردنا أن نحاسبه على المشوار ونعطيه المبلغ؛ فوجئنا به يقسم أنه لن يأخذ منا جنيها واحدا، فاستغربنا وسألناه لماذا، فقال لنا إن القصيدة التي كنتم تقولونها قبل قليل ذكرتني شخص عزيز عليّ، هل تعلمون أن الشاعر إسماعيل حسن هو خالي، وبينما نحاول أن نقنعه أن يستلم أجرته؛ إذا به يطلق لركشته العنان ويتركنا في حيرة من أمرنا.