
موجة غير مسبوقة من الفيضانات اجتاحت طول البلاد وعرضها مخلفة عشرات القتلى والجرحى، وآلاف المنازل المهدّمة كلياً أو جزئياً، في موسم خريفي يُقال أنه لم يحدث منذ العامين 1946م و1988م الذين شهدا فيضانين للنيل مدمرين، فاقت مناسيب المياه خلالهما كل التوقعات، وأوقعا خسائر في الأرواح والممتلكات لم تقل عن خسائر فيضان هذا العام 2020م، بحسب مقاييس العامين المذكورين.
البداية:
يبدأ موسم الأمطار في السُّـودان عادةً في يونيو ويستمر حتى أكتوبر، وخلال هذه الشهور الأربعة تهطل أمطار متفاوتة القوة والكمية فيما اصطلح السُّـودانيون على تسميته بالعينات (مفردها عينة)، وهي تقنية أرصاد جوي محلية لترتيب عملية الزراعة عبر مراحلها المختلفة، وكذلك للتنبؤ بالمخاطر التي قد تحدق بالبلاد جرّاء هطول الأمطار على غير المعتاد. وتتراوح هذه العينات ما بين سبع وعشر عينات؛ تمتد الواحدة منهن لثلاثة عشرة يوماً، تبدأ بعينتي (العصا العطشانة) و(العصا الرويانة) ثم (الثريا) فـ(الضُّراع) فـ(النترة) فـ(الطرفة) فـ(الجبهة) فـ(الخرسان) فـ(العِوا) وأخيراً (السِماك).
منذ بداية خريف هذا العام في يونيو كانت هناك إرهاصات بفيضان النيل الأزرق الذي يتَّسم بالعنف بداية من منبعه ببحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية، ويرفد النيل الرئيسي بالكمية الأكبر من المياه، بينما يوصف النيل الأبيض النابع من بحيرة فكتوريا بتنزانيا بالهدوء وبالكمية الأقل من المياه؛ مكمَّلاً حركة انسيابها حتى الملتقى في مقرن النيلين بالأزرق الدَّفاق في الخرطوم، لتستمر رحلة النيل بعد ذلك إلى أقصى الشمال المصري، متفرعاً إلى فرعين؛ فرع دمياط شرقاً وفرع رشيد غرباً، ويحصران فيما بينهما دلتا النيل، ليصب في النهاية عبر هذين الفرعين في البحر الأبيض المتوسط، منهياً مساره الطويل من أواسط وشرق إفريقيا وحتى شمالها.
عينات الخريف: (العصا العطشانة) و(العصا الرويانة) ثم (الثريا) فـ(الضُّراع) فـ(النترة) فـ(الطرفة) فـ(الجبهة) فـ(الخرسان) فـ(العِوا) وأخيراً (السِماك)
ومنذ العاشر من أغسطس الماضي بدأت مناسيب النيل بالارتفاع متخطيةً كل قراءاته خلال عامي فيضان 46 و88، بل ذهب بعض مختصي الأرصاد الجوي بأنَّ مناسيب هذا العام لم تحدث منذ مائة عام، مما استدعى إطلاق التحذيرات لساكني ضفاف النيل لأخذ التحوُّطات اللازمة، ولكن كان الفيضان سابقاً لأي إجراءات احترازية، عدا بعض الجهود الأهلية التي لم تنجح في كبح جماح النيل في أحايين كثيرة، أمَّا الجهود الرسمية على المستوى الحكومي فلم تكن بالشكل والقدر المطلوبين، مما ولَّد حالة من السخط والاحتقان لدى أهالي القرى والمدن المتضررة، والذي ظهر جلياً عند الزيارات الخجولة التي قام بها بعض الولاة والمسؤولين لبعض مناطق الكارثة.
أكثر من 100 قتيل، نفوق أكثر من 6000 رأس من الماشية، أكثر من 28000 منزل مهدُّم بالكامل، وقرابة الـ43000 مهدم جزئياً، وقرابة الـ42000 فداناً زراعياً مخرباً
أرقام وإحصاءات:
بحسب الإحصاءات الصادرة عن الجهات الرسمية بالسُّـودان، وحتى كتابة هذا التقرير، بلغ عدد القتلى جرّاء الفيضانات لهذا العام أكثر من 100 قتيل، ونفق أكثر من 6000 رأس من الماشية، كما تهدّم أكثر من 28000 منزلاً تهدُّماً كاملاً، وقرابة الـ43000 منزلاً تهدَّمت بصورة جزئية، وتضرر ما يربو عن الـ42000 فداناً زراعياً تضرراً كبيراً، هذا فضلاً عن الخسائر في المتاجر ومخازن السلع والبضائع المختلفة، والتي فاقت الـ360 متجراً ومخزناً، ولا زالت الخسائر في تزايد مستمر.
فيضانات 2020 شروخ نفسية عميقة:
أن يرى الأب أو الأم ابنهما أو ابنتهما يتداعى المنزل منهاراً فوق رأسيهما، أو العكس، أي أن يكون أحد الأبوين هو الضحية، فهذا ما لا يحتمله قلبٌ عادي، وهذا ما حدث بالفعل لعدد كبير من الأسر المنتشرة عبر الرقعة الواسعة التي اجتاحتها الفيضانات، التي سلبتهم أعزّ منْ أو ما يملكون، فالخسائر المادية المتمثلة في الانهيار الكامل للمنازل أو المتاجر أو المعارض التي تعرض السلع والبضائع المختلفة، لم يكن بأخفّ وقعاً على نفوس أصحابها الذين وضعوا فيها ما جمعوه خلال سنين عددا، متغرَّبين داخل السُّـودان أو خارجه، ليأتي فيضان 2020 مسوِّياً بها الأرض، جاعلاً إياها أثراً بعد عين.
تفاعل رسمي لا يرقى لمستوى الكارثة:
بما أنَّ الحكومة الانتقالية الحالية تُعد أضعف الحكومات التي تعاقبت على إدارة شؤون البلاد على الإطلاق، كان من الطبيعي جداً أن يكون تجاوبها وتفاعلها مع كارثة فيضانات هذا العام أقل بكثير مما هو مأمول ومرتجى منها، فلم تكن هناك استعدادات مسبقة لمجابهة الكارثة.

وعلى الرغم من التحذيرات التي انطلقت من هنا وهناك عبر منظمات المجتمع المدني وبعض ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي، الذين دقّوا جرساً للإنذار مبكِّراً بوجودهم المستمر في مناطق التماس مع النيل، والذين بنوا بأجسادهم تروساً ومصدات لعرقلة تمدُّد وهيجان النيل العنيد، ضاربين أروع الأمثلة في التضحية والاستبسال، ولكن أنَّى لمجهودات محدودة أن تكبح جماح هذا المارد الضخم، فحجم الكارثة لا تجدي معه إلاَّ جهود رسمية كبيرة ومنظمة، وهذا ما فشلت الحكومة السُّـودانية في تقديمه، وإن كانت هناك بعض الجهود المحدودة للدفاع المدني بولاية الخرطوم.
كارثة فادحة يقابلها اهتمام حكومي ضعيف، واستخفاف من بعض المسؤولين
أمَّا الولايات الأخرى الأكثر تضرراً، فلم تجد أدنى اهتمام حكومي، فضلاً عن التقريع والاستخفاف بالموقف والذي بلغ درجة أن قال أحد ولاة الولايات عندما استنجد به الأهالي ليحميهم من سطوة الفيضان بما لديه من سطوة وسلطة وإمكانات (وأنا ماذا أفعل لهذه المياه؟ أأشربها لكم؟!)، لتأتي هذه المواقف وغيرها ممن تقع عليهم مسؤولية حفظ أمن وسلامة المواطنين، متَّسقة مع حالة الفشل والتردِّي العام الذي ينتظم البلاد طولاً وعرضاً.

هل فيضانات 2020 بفعل فاعل؟:
عادةً في مثل هذه الظروف المضطربة تكثر التكهُّنات وتختلط الحقائق بالفرضيات، ولكن هذا لا ينفي كون الفعل المعيَّن يمكن أن يخضع لنظرية المؤامرة أو ليِّ الأذرع للوصول لمآرب محددة، وهذا الفعل يتمثَّل هنا في الصراع الدائر منذ مدة بين دول حوض النيل الثلاث (السُّـودان ومصر وإثيوبيا) فيما يُعرف بأزمة سد النهضة الذي تريد إثيوبيا من خلاله تعويض ما ضاع منها من مياه خلال السنوات الماضية منذ توقيع اتفاقية مياه النيل بين مصر والسُّـودان في نوفمبر من العام 1959م، وذلك بتشييدها لذلكم السد العملاق الذي تستطيع من خلاله تخزين 73 مليار متراً مكعباً من المياه كانت تذهب معظمها لمصر ولا تستفيد هي دولة المنبع بأكثر من خمسة مليارات من الأمتار المكعبة من المياه.. لذلك عزى البعض زيادة تدفق المياه القادمة من الهضبة الإثيوبية بصورة غير مسبوقة، لقيام الأخيرة بفتح بوابات السد المثير للجدل بعد الامتلاء الأولي الذي حدث بفعل الأمطار الهاطلة منذ بداية الخريف الحالي، وذلك بهدف الضغط على الجانب السُّـوداني المشارك في المفاوضات للوقوف إلى جانب إثيوبيا أو الوقوف على الحياد على أقل تقدير.
كما أن هناك فرضية أخرى أطلقها بعض نشطاء التواصل الاجتماعي من السُّـودانيين، مفادها تعمُّد مصر عدم فتح بوابات السد العالي في هذه الأيام بالذات، والذي كان من الممكن أن يسمح بالانسياب الطبيعي للمياه دون إحداث هذه الكارثة في السُّـودان، وذلك لنفس الهدف (أي التأثير على الموقف السُّـوداني في مفاوضات السد)، هذا إن لم يكن ذلك التصرُّف المصري عقاباً للسُّـودان الذي يرون أنَّه لم يقف بجانبهم وانحاز للإثيوبيين بصورة واضحة.
ولكن بحسب المسؤولين وبعض الخبراء في مجال الري والأرصاد الجوي، أنَّ ما حدث من فيضان للنيل في هذا العام لا يمكن عزوه بأي حال من الأحوال لفتح البوابات بسد النهضة أو عدم فتحها بالسد العالي.
تخفيف الكارثة: جهود محلية وإقليمية وغياب دولي:
كعادة السُّـودانيين بالداخل والخارج أن يهبُّوا لنجدة أهلهم عند الكوارث والأزمات، انطلقت العديد من المبادرات الهادفة لجمع المساعدات المادية والعينية، وذلك بفتح حسابات بنكية لتسريع حركة انسياب ووصول الأموال لتوظيفها في تخفيف حدة الكارثة على المتضررين، وفتح نوافذ ونقاط تجميع لاستقبال المساعدات العينية كالخيام والأطعمة وأمصال العقارب والثعابين التي خرجت بكميات كبيرة تزامناً مع الفيضان.
كما أنَّ هناك بعض الدول العربية، كقطر ومصر والإمارات والسعودية إضافة إلى تركيا، بادرت بتقديم مساعدات وذلك بإقامة جسور جوية بينها وبين الخرطوم، تم من خلالها تقديم وإيصال المعونات المختلفة للمتضررين.
ولكن الملاحظ في هذا الأمر هو الغياب التام للمجتمع الدولي على الرغم من إعلان الحكومة السُّـودانية حالة الطوارئ وذلك بعد إعلانها السُّـودان منطقة كوارث، وهذا يعكس مدى تعامل المجتمع الدولي مع السُّـودان فيما يمر به من مشاكل وأزمات على كافة الأصعدة.
هل ستتكرر هذه الكارثة؟:
كعادة الكوارث التي هي أوضاع استثنائية أو غير عادية، أن تحدث في فترات متباعدة، فمثلاً فيضان 1946م لم يتكرر بنفس الحدَّة إلاَّ في العام 1988م، وبعض البراكين النشطة لا تثور إلاَّ في فترات متباعدة قد تصل لمائة عام أحياناً، ولكن فيما يتعلق بفيضان النيل لهذا العام 2020م، لا توجد أي مؤشرات لعدم تكراره العام المقبل، أو أنَّه قد يغيب لعدة سنوات، وذلك لعدد من المؤشرات والأوضاع المستحدثة التي تجعل من العسير التكهُّن بحركته خلال السنوات التالية، مما يحتِّم على الحكومة القيام بمعالجات جذرية فيما يتعلق بالبنية التحتية الهشة والضعيفة والتي أسهمت بصورة كبيرة فيما بلغه فيضان هذا العام من خسائر تحتاج لوقت طويل للتعافي منها وتجاوز آثارها النفسية والاقتصادية.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس