سياسة شرعيةصفحات متخصصةمقالات

الشيخ د.محمد عبد الكريم يكتب: هل السياسة صدق أم كذب الجزء (٢)

د. محمد عبد الكريم الشيخ

د. محمد عبد الكريم الشيخ
بعد أن تبين لنا من التدوينة السابقة أن الكذب من الأخلاق الضارة الذميمة في السياسة وغيرها، وأنه لا خلاف في حرمته من حيث الأصل، إلا أنه قد تعرض بعض حالات الضرورة أو المصلحة الراجحة التي يجوز فيها الكذب، كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن رسول الله ﷺ قال: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا، قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. رواه مسلم. وقد ثبت عن الرسول ﷺ أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، أي أنه ما كان يفصح عن وجهته الحقيقية، لأن الحقيقة هنا فيها إضرار بمصالح المسلمين، فيوري (أي يستخدم التورية) عن الحقيقة لمصلحة المسلمين، ولا يُعَدُّ مثل هذا كذباً مذموماً.
وألحق أهل العلم بذلك كل مقصود محمود لا يمكن أن يتوصل إليه إلا بالكذب، واحتجوا بقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: بل فعله كبيرهم، و: إني سقيم ـ وقوله: إنها أختي، وقول منادي يوسف عليه السلام: أيتها العير إنكم لسارقون.
وقال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة ‏شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو دعت حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب فلا ‏بأس بالتعريض، فإن لم تدع إليه مصلحة ولا حاجة فهو مكروه وليس بحرام، فإن توصل ‏به إلى أخذ باطل أو دفع حق فيصير حينئذ حراماً. (الأذكار للنووي ٣٨٠)
وهنا لا بد من التفريق بين ثلاث أحوال تتصل بالكشف عن الحقيقة :
الأول : اخفاؤها دون الحاجة الى التورية عنها أو المعاريض
وهذا لا حرج فيه؛ ولا يسمى كذباً ؛ لأنها من الاسرار .
الثاني : اخفاؤها بالتورية عنها أو المعاريض.و(المعاريض) جمع (مِعْراض)، وهو ذكر لفظ محتمل يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى: فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام، وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ، وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه وعنى أنه أخوه في الدين، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه، عن النبي ﷺ: رجل يهديني السبيل. وكما قال النبي ﷺ للكافر الذي سأله ممن أنت؟ فقال: نحن من ماء. إلى غير ذلك أمر جائز. بل التورية مشروعة فيما هو أهون من ذلك كما في إرشاد من انتقض وضوؤه وهو في الصلاة؛ أن يقبض أنفه بيده، ليوهم الناس أن به رعافاً، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله ﷺ:”إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف”(سنن أبي داوود (1114))وذلك حتى لا يخجل ويسول له الشيطان بالمضي فيها استحياءً من الناس. قال الخطابي رحمه الله: وفيه إرشاد إلى إخفاء القبيح والتورية بما هو أحسن ولا يدخل في الرياء، بل هو من التجمل، واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس.(فيض القدير ٣٢١/١ )
الثالث : الكذب المحض الذي يكون على خلاف الحقيقة؛ ولا يحتمل اللفظ في التعبير معنى آخر ؛ فهذا هو الكذب ؛ ولا يجوز الا في حالات
يقول ابن القيم: «يجوز أن يكذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب»،(زاد المعاد١٤٥/٢).
ويقول ابن الجوزي: «الكذب ليس حراماً لعينه، بل لما فيه من الضرر، والكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن أن يتوصل إليه بالصدق والكذب جمعياً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إذا كان يحصل ذلك المقصود مباحاً، وواجب إذا كان المقصود واجباً، إلا أنه ينبغي أن يتحرز عن الكذب ويوري بالمعاريض مهما أمكن،لأن الكذب إنما أبيح لضرورة أو حاجة»(كشف المشكل٤٥٩/٤).
وعليه فإن فإن الكذب جائز في السياسة لأمور منها:
– المبالغة في كتمان بعض الأخبار أو الحقائق التي يضر نشرها.
– في ميدان الحرب بالتضخيم الإعلامي لقوتنا وتوهين تحركات أعدائنا؛ دون التغرير بالمسلمين.
– الكذب في بعض التصريحات للإصلاح بين الفئات أو الدول.

إن هذا التحديد للكذب في مجالات محددة؛ ينافي الحيز الكبير الذي يعطى للكذب في الحياة السياسية المعاصرة ؛ كما قال (جوزيف غوبلز) وزير الدعاية النازي السابق:”اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون، ثم اكذب أكثر حتى تصدق نفسك “.
فالسياسة مبناها الصدق؛ وأما الكذب فإنه استثناء تستوجبه الحاجة أو الضرورة لتحقيق المصلحة الراجحة.

إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى