الكاتب: أبو المنذر محمد حسين
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وبعد, كثيرة هي المسائل التي تثير الرأي العام ويتناولها العامة والخاصة في زماننا هذا, وكثيرًا ما يزداد المختلفون اختلافًا والفرقاء فرقة بعد كل موجة من الجدل والنقاش حول أي مسألة منها.
لعل من أهم هذه المسائل وأخطرها مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل للأراضي الفلسطينية, خاصة في ظل تهافت الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية والإسلامية على الارتماء في مستنقع التطبيع، وبعد أن كانت كلمة واحدة في هذا الاتجاه يعد في الواقع السياسي العربي خيانة عظمى، صار اليوم رشداً ووعياً بالواقع ومقتضياته!!..
في هذه المسألة وشبيهاتها يشتد الخلاف بين من يراه محرمًا يصل إلى الكفر ومن يراه جائزًا مباحًا, فيرمي الأولُ الثاني بالكفر, ويرد الثاني بالتبديع, وفي وسط هذا البغي بين الطرفين يتيه عامة الناس بين متعصب لأحد الرأيين وحائر لا يدري ما يقول وما يفعل.
ونحن في هذا المقال لسنا بصدد التعليق على اتفاق أبرمه ذلك النظام، أو تصريح أدلى به ذاك المسؤول.. ولكننا بإذن الله نحاول أن نضع بعض القواعد المنهجية للتعامل مع هذه القضية ونظيراتها نرى أنه قد غُفِل عنها في كثير من الكتابات التي تناولت هذا الموضوع.. كما ليس من غرض هذا المقال استقصاء الأقوال أو الأدلة والرد عليها وإنما ذكر بعض القواعد المنهجية التي تضيق الخلاف وتساعد على كمال فهم المسألة وتصورها.
وتسهيلًا على القارئ الكريم أضع المسائل التي أود الحديث عنها في نقاط.
أولًا: أكثر مسائل السياسة الشرعية هي من باب المصالح والمفاسد, لأن الواقع السياسي للأمة كثير التغيُّر والتقلُّب، والمصالح والمفاسد في الأمور السياسية سريعة التغيُّر, لذلك ينبغي تفَهُّم أسباب وجود الخلاف بين علماء المسلمين في المسائل السياسية وطرق التعامل معها, إذ ليس فيها نص شرعي حاسم ولا قياس جلي بيِّن وإنما هي معرفة بالواقع وتحصيل لمصالح المسلمين.
والذي يتولى تقدير هذه المصالح وتحصيلها ودرء المفاسد وتعطيلها هو ولي الأمر الشرعي, فهو المكلف بتدبير أمور السياسة والناس تبع له في ذلك إذ هو الأعلم ببواطن وخبايا الأحداث التي قد تخفى على عامة الناس, ومن هذه الأمور أمور الحرب والقتال والصلح والعهد والهدنة, فالناس في هذه الأومر تبع أمره تجب عليهم طاعته واحترام قراره صلحًا وحربًا.
وقد دارت عبارات العلماء حول هذا المعنى ومن ذلك عنوان كتاب الإمام القرافي (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام) فقد بين القرافي رحمه الله أن تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام تختلف باعتبارات أربعة, فمنها ما يكون حكمًا لازمًا يكون أصلًا ثابتًا لا يتغير بتغيُّر الأحوال والأزمان والأمكنة, ومنها ما يكون فتوى في قضية عين لا يجاوزها لغيرها إلا لما يشابهها من قضايا الأعيان, ومنها ما يكون باعتباره صلى الله عليه وسلم قاضيًا بين الناس إنما يتبعه في القضاة لا عامة الناس, ومنها ما يكون باعتباه قائدًا وإمامًا, وتصرف النبي عليه الصلاة والسلام بالإمامة لا يسوغ لآحاد الناس اتباعه فيها لإن ذلك من الافتئات على الإمام في حقوقه.
ثانيًا: يستعمل كثير من الخائضين في مسألة التطبيع الصلح الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين في الحديبية للتدليل على جواز التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل, وهذا خطأ بيِّن إذ الفروق بين الصلح الذي بينه الفقهاء في كتبه وبين التطبيع المعاصر كبيرة لدرجة أنه لا يمكن إلحاق أحدهما بالآخر دون النظر في هذه الفروق المؤثرة.
من هذه الفروق:
- ما يترتب على كل واحد منهما, فالصلح عند فقهاء المسلمين هو الاتفاق على وضع الحرب مدة معلومة إن كان عقدًا لازمًا، أو مدة مطلقة إن كان عقدًا جائزًا ممكن الفسخ وقت الحاجة وعبارات العلماء كلها تدور حول هذا المعنى, أما التطبيع المعاصر فإنه عقد ملزم دائم مطلق لا مدة له, وهذا لا يمكن قياسه على الصلح عند الفقهاء, وهذا الفرق مؤثر في الحكم يمنع القياس, وقد نبه بعض العلماء على ذلك, قال ابن المنذر في الإقناع: (ولا يجوز أن يصالحهم إلى غير مدة؛ لأن في ذلك ترك قتال المشركين وذلك غير جائز). وقال ابن قدامة في المغني: (ولا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية)، وقال البهوتي في كشاف القناع: (ولا تصلح الهدنة إلا حيث جاز تأخير الجهاد لمصلحة) وقال الشوكاني في السيل الجرار: (وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقا أو مؤبدا لكان ذلك مبطلا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام؛ فلابد أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح).
- من هذه أن الأمور المترتبة على التطبيع تختلف عن تلك المترتبة على الصلح الشرعي, فالصلح الشرعي غايته الاتفاق على ترك القتال والأعمال العدائية, أما التطبيع فيترتب عليه تنسيق أمني يتم فيه التخابر ضد المجاهدين والمقاومين وتعقبهم لصالح الكيان المحتل, كذلك من الأمور المترتبة على التطبيع إزالة أسباب العداوة والبغضاء، وإزالة كل نصوص التشريع التي تبقي هذه العداوة مع اليهود والكيان الصهيوني, وهذا مما لا يخالف عاقل في أنه لا يجوز.
ثالثًا: ضرورة التفريق بين مقام الحكم والتأصيل ومقام الفتوى والتنزيل, فقد بوب العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم (إعلام الموقعين عن رب العالمين) بابًا بعنوان (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان), وكذلك أشار القرافي في كتابه (الإحكام) -الذي ذكرناه آنفًا- إلى هذا المعنى.
وهذا يقتضي عند تنزيل الحكم على واقع معين أن ينظر الإنسان في الوقائع والسياقات والمآلات وتكون فتواه بعد التبصر والدراسة العميقة للواقع, فبعد الدراسة قد يتغير الحكم لتغير الحال تغيرًا مؤثرًا.
ومن أشهر الأدلة على ذلك الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : ( وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ).
فانظر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الحكم في الواقعة المعينة إلى الأمير لا إلى صاحب التشريع سبحانه وتعالى, لأن الواقعة المعينة قد تقتضي أحوالها وظروفها تغير الحكم وقد لا تقتضي. وهذه مسألة اجتهادية يقع فيها الصواب والخطأ.
عند النظر في نقاشات المعاصرين في مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل تجد كثيرًا من المبيحين يعتمدون على كون إبرام العقود مع دول الكفر من صلاحيات ولي الأمر, فما رآه حسنًا فهو الحسن وما رآه سيئًا فهو السيء, ويغفلون الفروق المؤثرة بين الصلح الشرعي وبين التطبيع المعاصر, كذلك يغفلون حال الحكام المعاصرين, فإن أغلب بلاد المسلمين قد تسلط عليها العلمانيون الذين لا يرقبون في الإسلام إلًّا ولا ذمة ويجتهدون لتحريفه وتبديله, وهم بتطبيعهم مع اليهود يستقوون بهم على التيارات الإسلامية ويستعينون بهم ويعينونهم على ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى, وهذه غفلة شديدة من هؤلاء المشايخ في هذا الأمر, نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.
كذلك عند النظر في كلام المحرمين لهذا التطبيع تجدهم يذكرون فروقًا كثيرة غير مؤثرة في الحكم مثل كون ذلك فيه استسلام لليهود واعتراف بوجودهم واستسلام لهم, وهذا الاعتراض يدل على قلة فقههم وعلمهم بأحوال المسلمين, فإن الشروط في الصلح غالبًا تكون في صالح الطرف الأقوى وهذا في كل صلح, وقد عقد المسلمون عبر تاريخهم الصلح مرات وهم أقوى ومرات وهم مستضعفون ولم يكن ذلك سبب إنكار من علماء الأمة عبر القرون.
والقائلون بالتحريم مع ذلك بعيدون عن معرفة واقع أحوال المسلمين ودولهم وحكوماتهم وقدراتهم وكثيرًا ما يحملونهم ما لا قدرة لهم عليه ولا طاقة لهم به.
ثم أقول ختامًا لو أن المتكلمين في هذه المسألة انضبطوا بضوابطها المنهجية ووضعوا الأمور في مواضعها لتحرر لهم موضع النزاع ولضاق الخلاف فيهم واتسعت دائرة العذر بينهم.
هذا والله أعلم وما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان, والله الهادي إلى سواء السبيل.
إنضم الى احدى مجموعاتنا على الواتس